البرهان ومبدأ الشر الضروري

المعضلة الاخلاقية التي ذكرها الصحفي الحاج وراق ليست في أن يتفاوض فولكر نيابة عن قحت وعن العسكر لإنجاز التسوية ، المعضلة في حرص فولكر على إستكمال التسوية ومراهنته عليها كحل جذري لمشاكل البلاد ، وكذلك حرصه الأكبر على عودة قحت المركزي للحكم مرة أخرى رغم خلو رصيدها من القبول السياسي وغياب مشروعيتها الأخلاقية والثورية، وهذا الأمر يمكن قياسه بتراجع نفوذ قحت وسط الجماهير وتمدد القوى الجذرية على حسابها ، رغم القوة الإعلامية المساندة لقحت والمستشارين والاسناد الدولي والاقليمي المعلوم .
لكن يبقى الخلل هو استجابة المكون العسكري للضغوط الرامية لعودة قحت ، والحديث عن تعرض البرهان لضغوط لا يمكن أن يكون من فراغ وليست الأزمة في تعرضه للضغط ، لكن الأزمة في الفراغات التي تمت عبرها تلك المضاغطة ، والملاحظ أنه كلما أستجاب القائد العام للقوات المسلحة للضغوط قوبل بالمزيد منها وهي سلسلة لا نهاية لها ، والتاريخ ذاخر بالكثير من الأمثلة التي تبين أن التنازلات لا تأتي إلا بمزيد من تجاوزات الخصوم في حق المتنازلين .
إدارة الدولة تحتاح لبذل أكبر قدر من حفظ التوازنات واللعب بالبيضة والحجر أحيانا ، لكن هناك مساحات هامش الخطأ فيها مهما كان قليلاً ستكون عواقب الإخفاق فيها كبيرة وربما كارثية ، لذلك لا يصح أن تدخل ملعباً لا تعرف مخارجه ، وقديما سأل الخليفة معاوية بن أبي سفيان القائد عمرو بن العاص: ما بلغ الدهاء منك؟ قال عمرو: (ما دخلت في شيء قط إلا ودبرت لنفسي مخرجاً منه) فقال له معاوية: (وأنا ما دخلت في شيء قط وفكرت في الخروج منه) ، ولكل من معاوية وابن العاص طريقة للعمل وكلا الطريقتين ناجعتين وتلائم كل منهما وضعاً مختلفا ، لكن الوضع في السودان أشبه بالمشاركة في مبارزة ساموراي أو لعبة روليت ، والثابت أن نسبة الفوز في كلا المغامرتين تتضاءل كلما أقترب اللاعبان من النهاية ، ويظل الإسلاميين والقوى الوطنية هم بعض من رصاصة الروليت وسيف الساموراي .
وقياسا على المعطيات الظاهرة في الساحة السياسية وخارطة الولاءات التي تتجدد كل فترة ، فاللجنة الرباعية أقوى نفوذاً من الآلية الثلاثية سواء في التأثير على موقف المجتمع الدولي أو في الولاء الذي تحظى به داخل الأجسام السياسية الراغبة في التسوية ، واللجنة هي من يمكنها إيقاع العقوبات وإجبار كل طرف على الرضوخ لأجندتها بعكس الآلية الثلاثية التي هي نفسها تخضع لتقييم الرباعية ، ويتوزع عامل الثقة والولاء والتقاطعات بين الأطراف المدنية والمكون العسكري من جهة ومكونات الرباعية من جهة أخرى، فالامارات أقرب للدعم السريع من الجيش ، والسعودية ومصر أقرب للجيش من الدعم السريع ، وقيادة الدعم السريع متنازعة بين إنحيازها للمكون العسكري ورغبتها في الحوافز والضمانات التي يقدمها شركاء قحت الغربيين ، والولايات المتحدة والترويكا يدعمان الموقف المصري الداعم للإستقرار والداعي لسلطة قادرة وغاشمة ، مع ضمان حفظ مسافة آمنة بين العسكر والإسلاميين وهذا ما يمكن أن يشكل قاعدة مشتركة بين هؤلاء والإمارات والتي بدورها تنظر للجيش السوداني على أنه إمتداد لحكم الأخوان المسلمين في السودان .
لذلك من الواجب علي الجميع الإجابة على سؤال : لماذا تخير القوى الإقليمية والدولية القوات المسلحة بين الخيار الصعب والخيار الأصعب ؟ أي لماذا تم تصميم الأحجية على أن لا تحل ؟ أو تحل مع كثير من المخاطر الجانبية ؟؟ وهذا السؤال يشكل معضلة تتطلب معالجتها قدراً كبيراً من الشجاعة وقليلٌ من الشر ، ما يجعل الفريق البرهان مضطراً لإستخدام مبدأ الشر الضروري (necessary evil ) أو رخصة الشر ، ففي ظل وجود خيارين سيئين فإن الخيار الأقل سوءًا هو الخيار الأفضل ، وإذا تساوت جدوى الخيار الأجنبي (المفروض) للتسوية الثنائية مع الخيار الوطني (المطروح) للتسوية الشاملة ، ووصل الجميع لقناعة بأن كلا الخيارين سينتجان الفوضى ، فالأفضل أن تكون تلك الفوضى بشروطك لا شروط غيرك ، والمهم في كلا الخيارين : إذا ضربت فأوجع فإن العاقبة واحدة ..

يوسف

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.