الفرصة الأخيرة أمام مصر والسودان وأثيوبيا ونافذة الخيارات تضيق
تترأس كينشاسا عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي راعي مفاوضات سد النهضة، حيث تقام جولة المفاوضات الحالية بين الدول الثلاثة (إثيوبيا ومصر والسودان). وتختتم هذه الجولة اليوم الإثنين 5 أبريل/ نيسان على مستوى وزراء خارجية الدول الثلاث.
إثيوبيا مصممة على عدم توقيع اتفاق قانوني مُلزم بشأن سد النهضة وتواصل استعداداتها للملء الثاني، ومصر تقول إن مفاوضات كينشاسا “الفرصة الأخيرة”، فإلى أين تتجه الأزمة في ظل ضيق الوقت؟
تصعيد مصري بشأن سد النهضة
كانت هذه الجولة من المفاوضات قد انطلقت السبت 3 أبريل/نيسان، في أجواء مختلفة عن ماراثون الجولات التفاوضية المستمرة بشكل مكثف منذ توقيع إعلان المبادئ بين مصر والسودان وإثيوبيا في مارس/آذار 2015، والاختلاف هنا يتعلق بتصعيد لهجة الخطاب المصرية بصورة غير مسبوقة.
ففي يوم الثلاثاء 30 مارس/آذار الماضي، أصدر الرئيس المصري تهديداً مباشراً قال فيه: “محدش هيقدر ياخد نقطة مياه من مصر واللي عاوز يجرب يجرب.. إحنا ما بنهددش حد، وإلا هيبقى في حالة عدم استقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد”، وهو ما أثار ردود فعل إقليمية ودولية جاء أغلبها داعماً لمصر والسودان في ملف المياه الذي يعتبر حياة أو موت لدولتَي المصب لنهر النيل.
وفي نفس السياق، اعتبرت الخارجية المصرية في بيان للوزير سامح شكري أمس الأحد 4 أبريل/نيسان أن اجتماعات كينشاسا تمثل “الفرصة الأخيرة”، وهي أيضاً المرة الأولى التي يصدر فيها تصريح مصري رسمي يضع خطاً أحمر يتعلق بالبعد الزمني في قضية السد الذي كانت أديس أبابا قد شرعت في تنفيذه في أبريل/نيسان 2011، أي قبل عشر سنوات من الآن.
الخارجية المصرية قالت في بيانها إن “هذه المفاوضات بمثابة فرصة أخيرة يجب أن تقتنصها الدول الثلاث من أجل التوصل لاتفاق على ملء وتشغيل سد النهضة خلال الأشهر المقبلة وقبل موسم الفيضان المقبل”. أما عن أسباب هذه اللغة الحادة من الجانب المصري، فالأمر مرتبط بالملء الثاني للسد والذي تستعد له إثيوبيا حالياً، ومن المتوقع أن تبدأ هذه المرحلة الحاسمة في يوليو/تموز المقبل تزامناً مع موسم الأمطار، وإتمام هذه العملية يعني أن أي تفكير في توجيه ضربة عسكرية مصرية-سودانية للسد ستسبب أضراراً فادحة للدولتين، بعيداً عن مدى إمكانية تنفيذ الضربة وتبعاتها على استقرار المنطقة ككل.
هذا هو الموقف الإثيوبي حتى الآن
على الجانب الآخر لا يبدو أن هناك أي تغير في موقف إثيوبيا أو طريقتها في إدارة الملف منذ بداية الأزمة وحتى اليوم. فأديس أبابا تواصل تشييد السد بالطريقة التي تراها وتتعامل مع ملف المفاوضات كأداة لتضييع الوقت فقط دون أي رغبة أو نية في التوقيع على اتفاق قانوني له علاقة بتعبئة أو تشغيل السد، وهذا ليس تحليلاً أو تخمينات بل واقع كشفته بشكل لا يقبل الشك جولات المفاوضات التي رعتها الولايات المتحدة والبنك الدولي في الفترة من نوفمبر/تشرين الثاني 2019 وحتى فبراير/شباط 2020.
تلك المفاوضات تحديداً شهدت التوصل لبنود اتفاق بخصوص سد النهضة وكانت الاستعدادات تجري للتوقيع على الاتفاق في البيت الأبيض بحضور الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ونظيره المصري عبدالفتاح السيسي ورئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، لكن أديس أبابا طلبت تأجيل التوقيع ولم يسافر وفدها إلى واشنطن كما كان متفقاً عليه وفي النهاية أعلنت إثيوبيا رفضها التوقيع على الاتفاق، على الرغم من أن بنوده كانت تقلل بشكل واضح من حصة مصر من مياه النيل طوال سنوات ملء السد.
وبعد أن لجأت مصر إلى مجلس الأمن الدولي في يوليو/تموز من العام الماضي، طلبت إثيوبيا أن يتولى الاتحاد الإفريقي رعاية المفاوضات لتستمر الجولات الماراثونية دون أي نتيجة حتى فاجأ آبي أحمد الجميع بالإعلان في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن اكتمال الملء الأول للسد ووقتها غرد وزير خارجية إثيوبيا مهنئا الإثيوبيين بتحول نهر النيل إلى “بحيرة إثيوبية”.
وبعد الصمت المصري والسوداني على ذلك التطور الخطير، خرجت البيانات من الجانبين تطالب أديس أبابا بالتوقيع على اتفاق قانوني ملزم بشأن تشغيل سد النهضة وهو ما أعلن آبي أحمد موافقته عليه لتبدأ من جديد جولات التفاوض التي تستغلها إثيوبيا للانتهاء من الملء الثاني للسد وإكمال تشييده، وهو ما كشفت عنه التصريحات والموقف الإثيوبي خلال الجولة الحالية من المفاوضات في كينشاسا.
ففي اليوم الأول للاجتماعات، أعلن متحدث باسم الوفد السوداني أن إثيوبيا فاجأت الجميع برفع سقف مطالبها في المفاوضات والمطالبة بطرح “اقتسام مياه النيل على جدول المناقشات”، وبالتزامن مع ذلك أكدت جميع التصريحات الصادرة عن الحكومة الإثيوبية أن الاستعدادات تجري على قدم وساق لإكمال الملء الثاني للسد في موعده المقرر في يوليو/تموز المقبل.
نافذة الخيارات البديلة تضيق
في ضوء هذه المواقف المتعارضة تماماً وإصرار إثيوبيا على المضي قدماً في الملء الثاني في مواجهة تصريحات السيسي بأنه “محدش هيقدر ياخد نقطة مياه من مصر واللي عاوز يجرب يجرب”، وبيان الخارجية المصرية بأن الاجتماعات التي تنتهي اليوم في كينشاسا هي “الفرصة الأخيرة”، من الطبيعي أن يتبادر للذهن سؤال، وماذا بعد؟
إثيوبيا تبرر موقفها بأن سد النهضة يلعب دوراً محورياً في تنميتها الاقتصادية وتوليد الكهرباء، وهو تبرير لم ترفضه دولتا المصب مصر والسودان ولا يتعارض مع توقيع اتفاق ملزم بشأن تعبئة وتشغيل السد المقام على مجرى نهر دولي تحكمه القوانين الدولية في هذا الشأن، مما يشير إلى أن آبي أحمد لديه أجندات أخرى يريد تنفيذها من خلال تحويل السد إلى قضية قومية لتوحيد الإثيوبيين خلفها، خصوصاً في ظل الصراعات الداخلية الدامية وبخاصة في إقليم تيغراي.
وعلى الجانب الآخر، تواجه الإدارة المصرية برئاسة السيسي موقفاً لا تُحسد عليه في ظل الترقب الشعبي للخطوة المقبلة، خصوصاً بعد تصريحات السيسي الحادة والتي استقبلها غالبية المصريين بالارتياح لحقيقة قول الرئيس إن مصر لن تفرط في قطرة من مياه نهر النيل، وضيق الوقت حتى موعد الملء الثاني يجعل نافذة “التصرف الفعلي” تضيق أكثر وأكثر، إذ إن إكمال أديس أبابا لتلك المرحلة دون رد فعل مصري قد يؤدي لانفجار الغضب الشعبي بصورة غير مسبوقة، ناهيك عن كون قضية المياه نفسها “حياة أو موت” لمصر، حسب وصف الرئيس السيسي من على منبر الأمم المتحدة عام 2019.
وفي السودان لا يختلف الأمر كثيراً عما عليه الحال في مصر، ويزيد عليه الخلاف الحدودي المتفجر عسكرياً مع إثيوبيا وليس فقط القلق بشأن سلامة السد الإثيوبي وتنظيم تدفق المياه عبر السدود ومحطات المياه على أراضيه.
ومن الصعب في هذا السياق استبعاد التدريبات العسكرية المشتركة بين الجيشين السوداني والمصري والتي اختتمت السبت، في نفس يوم انطلاق جولة المفاوضات في كينشاسا، والتي أطلق عليها “نسور النيل 2″، إذ على الرغم من أن تلك التدريبات كان مخططاً لها من قبل، فالتقارب العسكري بين دولتي المصب ازداد بالأساس خلال الأشهر القليلة الماضية، أي في ظل وصول مفاوضات السد إلى طريقها المسدود.
ويرى فريق من المراقبين أن الأوضاع الداخلية في الدول الثلاث تضيف بعداً من التوتر لا يمكن تجاهله فيما يتعلق بقضية سد النهضة، بمعنى أن النظام في أديس أبابا والقاهرة والخرطوم لا يتحمل الهزيمة في هذا الملف الجوهري. فقضية مياه نهر النيل في حد ذاتها قضية حياة أو موت بالنسبة لمصر بالتحديد ويلقي البعض باللوم على الرئيس المصري الحالي فيما وصلت إليه الأمور بتوقيعه على إعلان المبادئ في 2015 وهو الورقة الوحيدة التي تلوح بها إثيوبيا لتبرير مواقفها المتعنتة.
وبالتالي فإن إكمال عملية الملء الثاني قد يغلق تماماً نافذة المناورة أو الحركة أمام مصر والسودان ويكون آبي أحمد قد حقق نصراً مهماً يحتاجه داخلياً للاقتراب من الفوز في الانتخابات المنتظرة هذا الصيف، وفي المقابل سيكون ذلك بمثابة هزيمة مدوية للقاهرة والخرطوم قد لا يتحملها النظام الحاكم في البلدين.
والخلاصة هنا هي أن الشهرين المقبلين يمثلان نقطة فاصلة في ملف المياه ليس فقط بالنسبة لأطراف الصراع المباشر (إثيوبيا ومصر والسودان)، ولكن أيضاً بالنسبة للمنطقة ككل وهو ما عبَّر عنه الرئيس المصري بوضوح ودون مواربة بقوله: “وإلا هيبقى في حالة عدم استقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد”!