عن الشرق البائس والصدام الأميركي الروسي: هل يرتفع الدخان الأبيض من مسقط؟
«آخِر من طلبَ مناظرة مباشرة مع رئيسٍ أميركي هو صدّام حسين، ليتَهُ يلاقي المصير ذاته!»، هذه العبارة كتبها مواطنٌ فرنسي تعقيباً على السِجَال الحاصِل بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي جو بايدن، هذا المواطن يُعبر بوجهةِ نظرهِ هذهِ عن تلكَ الفئة من الأوروبيين المغسولة أدمغَتهم، الذين يسيرون بطريقةٍ عمياء خلف ما تقوله ماكينة حكوماتهم الإعلامية. هذا الفرنسي هو نفسه المقتنع بأن الجيش العربي السوري استخدم السلاح الكيميائي ضد المدنيين، هو نفسهُ الذي لا يعرف إلا أن يكررَ عبارتي: بوتين ديكتاتور والصين ليس فيها حريات!
هذا المواطن في النهاية هو تعبير حقيقي عن نجاح البروباغندا الغربية في صناعةِ الكذب، لدرجةٍ تجعلنا «نحسدها» على هذه القدرة العجيبة على صناعةِ الكذب بعيداً عن مصطلحاتٍ عفا عنها الزمن كـ«الأخلاقيات السياسية». لكن مهلاً، فالوقائع تثبت يوماً بعدَ يوم أن صناعةَ الرأي العام عبرَ الأكاذيب هو بناءٌ هش، القضية ليست مرتبطة فقط بالنصيحةِ القائلة إن «إجادة الكذب تتطلب ذاكرة قوية»، القضية مرتبطة بسمو الثبات على المواقف أكثر من التلون حسبما يجري، لنصلَ فيها إلى نتيجةٍ يكرهها البعض: ثمن الثبات أقل بكثير من ثمن التلون!
«عليكَ أن تهتمَ بصحتك»، عبارةٌ بسيطة قالها بوتين لبايدن مترفعَّاً عن الذهابِ معهُ إلى سجالٍ لا يليق برئيس دولة، لكنها عبارة تختصر الكثير، هو ما ذكرناه في مقال الأسبوع الماضي عن واقع صحة الرئيس بايدن، القضية هنا ليست مرتبطة فقط بـ«صحة الرئيس» القضية أن الولايات المتحدة كما يراها كثر هذه الأيام هي الصورة الأكبر لبايدن، كلاهما يبدو مترهلاً وإلا فكيفَ يمكن لرئيس دولة عُظمى أن يهين شعبهُ؟ تحديداً عندما يُظهر ملايين الأميركيين وكأنهم تأثروا بالدعاية الروسية التي غيرَت مسار الانتخابات في العام 2017، من لا يحترم شعبهُ لا تطلب منه احترام رئيس دولة يراها معادية.
في السياق ذاته لا يمكن الذهاب بعيداً في البناء على هذا السجال، فالتحليلات التي تتحدث عن عودةِ للحرب الباردة كلام لا معنى لهُ، فعن أي حربٍ باردة نتحدث والعالم كلهُ يغلي! بالوقت ذاته لا يمكن الحديث عن ارتفاع حدةِ الاشتباك ليصلَ إلى درجات غير مسبوقة، فالولايات المتحدة وكأنها صورة عن جو بايدن، متعثرة، وما يمنعها من السقوط ليست سياستها بقدر ما هو تحكمها الهائِل بالاقتصاد الدولي.
يبدو هذا السجال عبارة عن فتحِ باب المزاد لا أكثر وسيدفع الطرفان للجلوس حول طاولة واحدة عاجلاً أم آجلاً، لا نعرف لماذا فوجئ البعض بتهديدات بايدن لبوتين بجعله يدفع الثمن؟ هل فكرة التصريح جديدة أم إن الزمن متوقف عند البعض منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عندما تشارك السوفييت والأميركان الهدف ذاته؟ لكن حتى هذا التهديد لا يبدو أنهُ قابلٌ للصرف ففكرة استغلال التحريض الداخلي ضد القيادة الروسية فشلت والبدائل إما ستكون إشغال الروس بحرب هامشية على الحدود الأوكرانية، أو استمرار العقوبات الاقتصادية، وهي جميعها وصفات مجرّبة تبدو كأنها من أبجديات السياسة الأميركية تجاه روسيا، ومن ينتظر ارتفاع حدةِ الصدام ليبني عليه المواقف، فعليهِ أن يتذكر أن الدول العظمى تعرف كيف تدير هزيمتها لتخرج بثوبِ المنتصر، ومن يدفع الثمن هم أولئك الذين ظنوا أنفسهم ورقة رابحة لهذه الدولة أو تلك، ليكتشفوا أنهم مجرد أدواتٍ استخدمت لتشويهِ بلدانهم مهما حاولوا تجميل الاستغناءِ عنهم، فكيفَ ذلك؟
فجأة ومن دون سابق إنذار بدأ إخوان مصر في الخارج يلملمون بضاعتهم الرثة وخطابهم ضد بلدهم، وبدأ الإعلام الموالي لهم ينسحب شيئاً فشيئاً من خطاب التحريض والكراهية الذي يجيدونه، ولأن «تجارَ الدين» كما «تجار الثقافة» كلاهما ببساطةٍ قادرٌ على تبريرِ الخيانة والتلون في المواقف، خرج أحدهم ليؤكدَ بأن ما سماه «الحوار مع تركيا»، وطبعاً في الواقع لا يوجد حوار هي مجرد تعليمات يتلقونها من ضابط مخابرات تركي أو موظف درجة عاشرة في الخارجية التركية، لم يكن هدفهُ تبديل مواقفنا بقدرِ ما يهدف لجعلِ الخطاب الإعلامي يتوافق مع «ميثاق الشرف»! أليس هذا اعترافاً مباشراً بأنهم كانوا يتعاطون بقلةِ شرفٍ مع بلدهم؟ في مصر أو سورية لا فرق الجواب نعم، فمن يهاجِم جيش بلادهِ ويصف شهداءه ضد الإرهاب التكفيري بأقذعِ الأوصاف، ومن يكون ذراعاً لتُضربَ فيها بلده وتُدمَّر، هو حكماً لا يمتلك أساساً من الشرف إلا ما يمتلكه رجب طيب أردوغان من وفاء.
لكن وبواقعيةٍ تامة فإن هذهِ المشكلة هي سمة لما يسمى المعارضات العربية، هل يوجد معارضة حتى في الدول التي قد لا نتفق مع سياساتها إلا ووضعت نفسها تحت تصرف أعداء بلدانها؟ متى سينتبه أولئك إلى أنهم عند ما يكونون ورقة في يد الصراعات الدولية عليهم أن يحتسبوا بأنهم أول من سيكون «فرق عملة» عندما تحين ساعة المصالحات؟ هذا الكلام لا ينطبق على الإخوان فحسب هناك من هو أقذر، يتغطى بالأميركي ليكون سيفهُ لتقسيم بلدهِ ونهب ثرواته، ترى هل فكرتم بخطِّ الرجعة؟ تحديداً إن جلَّ المتصارعين اليوم والمتفقين غداً يرون بأن مشروعكم خطر عليهم؟
القضية ليست فقط بانتفاء أسباب الحروب التي تنتظرونها، لكنها كذلك الأمر مرتبط بسعي جاد لإطفاء النيران المشتعلة في المنطقة حتى من مشغليها لأنها أتعبت الجميع، هي رسالة لكل من تضخمَت الأنا لديهِ ولا يمكنه أن يرى المتغيرات من حوله، تحديداً إن أبواب الحوار هنا وهناك وبعدَ أن كانت ضرباً من الخيال، مروراً بكونها تسريبات صحفية، باتت اليوم واقعاً فما الجديد؟
لا تبدو الزيارة التي يقوم بها وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى سلطنة عُمان بالزيارة العادية، تحديداً إن أهميتها تنبع من أمرين أساسيين:
الأمر الأول مكاني، فبعيداً عن العلاقات القوية التي يتمتع بها البلدان، وبعيداً عن المواقف المتوازنة للسلطنة تجاهَ الحرب على سورية، فالعاصمة العُمانية مسقَط لعبت في الكثير من الملفات المهمة دورَ صندوق الرسائل الموثوق، وصولاً لدور الوسيط العاقل والمقبول من جميع الأطراف.
الأمر الثاني زماني، مرتبط إلى حدٍّ بعيد بجو الانفراجات الكبرى في العلاقات على مستوى المنطقة، التي لا تبدو فيها سورية بعيدة عن هذه الأجواء، ليبقى السؤال المطروح تُرى من الجهة التي اختارت مسقط لتكون نقطةَ حوارٍ ما؟ في الواقع هذا السؤال على أهميتهِ لكنه يبدو هامشياً لأن النتيجة واحدة، ففي الوقائع السياسية كلما زادت حدة الحرص على إخفاء المحادثات كانت الأطراف المتحاورة هي المُمسك الحقيقي والفاعل على ساحةِ الصراع!
هكذا تقول التجربة السياسية، لكن هذه المنطقة عودتنا دائماً صعوبة الدقائق الأخيرة من الحل، فهل سيتصاعد من مسقط دخان أبيض؟ نتمنى ذلك! إلا إن كان البعض يظُن أن الوفد السوري في السلطنة لالتقاطِ الصور مع الآثار؟ ألم نقل لكم فيما سبق: ساذجٌ هو من لا يزال يعتقد أن ثمن التلون أقل بكثيرٍ من ثمنِ الصمود!
المصدر: سنمار سورية الإخباري