الإرهاب في زمن الانتقالية.. ضعف جهاز المناعة!
لأول مرة في تاريخ السودان القريب، يسقط (5) من النظاميين بينهم ضابطان، واثنان في الصف، وجندي، في مواجهة مجموعات متطرفة، وهو الأمر الذي يعني وجود خلل ما؛ إما في مرحلة التخطيط أو التنفيذ أو الاثنين معاً، وهذا بالطبع يستدعي مراجعة عاجلة لخطط التعامل مع الإرهابيين عاليي الخطورة، وكيفية تعقبهم والقبض عليهم، خاصة أن العناصر المتطرفة تكون في مثل هذه الظروف ترتدي سترات واقية ضد السلاح، وفي مرات أحزمة ناسفة، كما أن الأوكار التي يختبئون فيها تتوفر فيها الأسلحة الحديثة والمتفجرات والعبوات القابلة للاشتعال والقنابل، وربما الألغام، وكلما ضيقت عليهم الخناق والحصار ارتفعت درجة الخطورة التي قد تؤدي لوقوع خسائر بشرية فادحة وسط القوات النظامية وهي تشتبك مع عناصر إرهابية متحصنة في بناية يقطنها عدد من المواطنين في حي سكني – كما حدث أمس الأول- ولعل هذا تسبب في حدوث اختلال في موازين القوة بين القوة النظامية والعناصر المتطرفة؛ إذ لا يمكن أن تطير الفضائيات وتكتب الصحف خبر مقتل (5) من منسوبي المخابرات، بدلاً من أن يكون الخبر هو القبض على خلية إرهابية؛ مكونة من عناصر أجنبية وفرار المجموعة بعد عملية إطلاق نيران على القوة المداهمة للوكر، الذي يختبئ فيه المتطرفون، فحالة مداهمة مخبأ جبرة، إما أنها فخ وكمين، أو عملية استدراج، أو تضحية، أو أن شكل العملية كانت تتبعاً وتقفياً لآثار الخلية، بدليل وجود خبير في مجال التقانة والاتصالات “الهكر”، أو أن المجموعة التي تمت مهاجمتها على علم تام بأمر تنفيذ الغارة؛ مما جعلهم في كامل الجاهزية والاستعداد وارتداء السترات للواقية للرصاص، هذا فضلاً عن التصدي للقوة، ثم إفلاتهم من عملية القبض، وفرارهم بالسيارة التي كانت تقل قوة منسوبي المخابرات العامة.
(1)
حينما تم اغتيال الأمريكي، جون غرانفيل، مطلع العام 2008، واختفى القتلة دون أن يخلفوا وراءهم أي أثر، ثم خروجهم من العاصمة الخرطوم، ولحين عودتهم مرة أخرى، فإنه تم القبض على أفراد الخلية حتى من غير أن تتم عمليات اشتباك أو تبادل لإطلاق النيران من الطرفين، بل عدم وجود مقاومة تذكر، حيث أوقف القتلة وهم بعد استسلامهم في غرفة الدردشة في إحدى مقاهي الإنترنت بحي كوبر في الخرطوم بحري، ومن مقهى كوبر اقتيدوا إلى سجن كوبر، رغم أن المجموعة المتطرفة المكونة من محمد مكاوي إبراهيم، ومهند عثمان، وعبد الرؤوف أبوزيد، وعبد الباسط حاج الحسن، تلقت جرعات تدريبية عالية، وخضعت لعمل تأهيلي متكامل وتنفيذ مخططها وفقاً لما خطط له.
ما حدث من تعامل مع عناصر خلية مقتل غرانفيل حدث من قبل مع أفراد خلية السلمة جنوبي الخرطوم في العام 2007، الذين يزيد عددهم عن الثلاثين مقاتلاً، كانوا يخططون لتنفيذ أعمالهم داخل بناية في حي سكني “ضاحية السلمة” مأهولة بالسكان، ومع ذلك تم القبض على غالبية أفراد الخلية، وتوقيف الهاربين الذين بدأوا في عملية إطلاق النيران على القوات المكلفة بالقبض عليهم، وتفكيك الخلية والسيطرة على الموقف دون وقوع خسائر، فغير عنصري المفاجأة والمباغتة كان هناك تفوق في موازين القوة، الأمر الذي أنهى المغامرة، رغم خطورتها في ساعات قليلة من بدايتها، فالشاهد أن تكتيك وطريقة القبض على عناصر خليتي السلمة وغرانفيل انسحبت على المجموعة المتطرفة التي كانت تتلقى تدريباتها العسكرية في معسكر بمحمية الدندر في العام 2012، فالمعركة التي كانت مفتوحة أحياناً ثم تحولها لالتحام واشتباكات مسلحة بين القوتين، ثم انتهت بملاحقات انتهت بتكبد خسائر فادحة في جانب المتطرفين، حيث قُتل أحمد حسب الرسول، وأحمد حسن مبارك، خلال عمليات التعقب وتقفي آثار المتطرفين ومطاردتهم من حظيرة الدندر وحتى مناطق الحواتة داخل ولاية القضارف، ومن بعد القبض على كامل عناصر الخلية المتطرفة التي اتخذت مكاناً قصياً بعيداً عن أعين الرقابة والرصد مما مكّنها الاستراحة على مواقع نائية ساعدها في ترتيب صفوفها والإعداد لمشروعها الإرهابي.
(2)
غير أن الأمر اللافت للأنظار أنه ومنذ سقوط نظام الإنقاذ، فإن ملف الإرهاب الذي كان يقع تحت اختصاص وسلطات جهاز الأمن والمخابرات “سابقاً” قد توزع مؤخراً بين عدد من القوات النظامية الأخرى، فقبل عامين أكدت القوات المسلحة أنها ألقت القبض على خلية إرهابية مكونة من عناصر تتبع للجنسية التشادية، وينتمون لبوكو حرام، ثم أعلنت قوات الشرطة العام الماضي أنها داهمت مخبأ بمنطقة الحاج يوسف بشرق النيل يحتوي على متفجرات ومفرقعات وعبوات ناسفة شديدة الاشتعال، بالإضافة لأسلحة وذخائر، وأن القوة المداهمة قد ألقت القبض على بعض الأجانب فيما فرّ الآخرون، وتجري عمليات تمشيط واسعة للقبض عليهم، وتلا ذلك إعلان قوات الدعم السريع وبصورة دعائية واسعة النطاق أنها وبالتنسيق مع النيابة العامة وضعت يدها على متفجرات خطيرة “نترات الأمونيوم” كافية لتفجير الخرطوم على النحو الذي حدث في مرفأ بيروت بلبنان، ثم قالت النيابة العامة إنها تحتفظ بعناصر خلية إرهابية بالخرطوم مكونة من (9) أفراد ينتمون للقاعدة كانت تنوي تنفيذ أعمال إرهابية، وأن عناصر هذه المجموعة يحملون جوازات سفر سورية من أصل تونسي، وتشاديين أحدهم متهم بالتخطيط للهجوم على السياح الأجانب في مدينة سوسة، ومطلوب لدى تونس وأن التحقيقات أظهرت أن المعتقلين متهمون في بلدانهم بالضلوع في جرائم إرهابية، وأن الخلية وفدت للبلاد عن طريق التهريب، وتلقت تدريبات عسكرية وتخطط لاستهداف بعض بلدان الخليج العربي، وأن الإمارات تقدمت بطلب للحكومة السودانية لتسليمها عناصر هذه الخلية، وهذا هو الإعلان الثاني للنيابة العامة، التي سبق وأن دوّنت دعوى جنائية في مواجهة عناصر “خلية إرهابية” من جنسيات مصرية كانت تخطط لتنفيذ تفجيرات في مدن سودانية ومن جهة ثانية فإن كل هذه الوقائع التي تمت الإشارة إليها فيها جوانب من الغموض والغرابة، ودائماً ما يتم طي ملفها، وأن التحقيقات ولجان تقصي الحقائق لا تظهر أو يتم الإعلان عن نتائجها وتمليكها للرأي العام، فحتى الآن ظل الشعب مغيباً تماماً عن حادثة أو محاولة اغتيال رئيس الوزراء، د.عبد الله حمدوك، رغم مرور أكثر من عام ونصف العام على وقوعها وخطورة العملية نفسها، وهو ذات الحال بالنسبة للأحداث الأخرى المتصلة بضبطيات المتفجرات والمفرقعات التي تم العثور عليها في عدد من المواقع بالخرطوم، وأين وصلت التحقيقات بشأنها، ولماذا لم يتم الكشف عن هوية المجرمين أو المتهمين، وهل تمت محاكمات في مواجهتهم أم لا؟، ولماذا توضع كل هذه الأحداث – رغم خطورتها – على “الرف” ويتم تناسيها؟، ففي حين أن دولاً مثل السعودية ومصر – على سبيل المثال – غير إستراتيجياتها المنعية، فإنها تكشف كامل التفاصيل والملابسات خلال ساعات من وقوعها، وتكشف تفصيلاً لا إجمالاً هويات منفذيها وإلى أي تنظيم إرهابي ينتمون، بل وتستطيع القبض على المخططين والمنفذين في أقل من يوم، ومن بين جوانب الغرابة والغموض أن العمليات الإرهابية كمحاولة اغتيال حمدوك أو ضبطيات الأسلحة والمتفجرات أو حتى خلية جبرة والأزهري، تجد أن نمط الحادثة وبصمتها أقرب لداعش والقاعدة، لكنه في المقابل ليس من صنع داعش ولا القاعدة، ولم يتم تبنيه أو تحمل مسؤولية حدوثه، كما تجري العادة في مثل هذه الحوادث في البلدان الأخرى حال وقوعها، حيث تصدر بيانات القاعدة وداعش، لتؤكد وتعلن مسؤوليتها عن الواقعة وتبنيها بالكامل، هذا بجانب أمر لا يقل خطورة عن ما تم ذكره، وهو أن الحكومة الحالية ومنذ الإعلان عن تكوينها، لم تولِ أي اهتمام لملف الإرهاب الذي يشكل بنداً أو جنداً يندرج في سلم أولويات أي حكومة في دول الإقليم والمنطقة التي يتهددها خطر الإرهاب والتطرف الديني، أو تعيش حالات الصراعات الطائفية والنزاعات المسلحة خاصة في بلد كالسودان، حدوده البرية مفتوحة في كل الاتجاهات، ويصعب مراقبتها أو رصد حركة الدخول والخروج عبر المنافذ البرية، بل وحتى من خلال المطارات؛ الأمر الذي جعل البلاد “نقطة مقر” لاستقبال المتطرفين وساحة مفتوحة لحركتهم ونشاطهم لدرجة تغلغل الإرهابيين الأجانب حتى داخل الأحياء السكنية بوسط العاصمة الخرطوم، ومواقع سكنهم تمتليء بالمتفجرات، وتحولت لمخازن للأسلحة والذخائر، في وقت أصبح الحصول على السلاح أو اقتناؤه أمراً في غاية السهولة في ظل عدم صلابة الأوضاع وهشاشتها، مع ظهور التلفتات والاضطرابات، وهذا مناخ يخلق واقعاً جاذباً ومحفزاً لتأسيس خارطة انتشار واسع للإرهابيين، وبناء تشكيلات وشبكات عسكرية وخلايا نائمة.ومن بين العوامل المساندة للسيطرة على الإرهابيين التنسيق العالي بين المخابرات الأمريكية مع نظيرتها السودانية – خاصة في المجالات المتصلة بالتقانة واستخدام الوسائل الحديثة والمتطورة ــ الأمر الذي ساعد كثيراً في الكشف المبكر عن عدد من المخططات وشيكة الوقوع والتعجيل باحتوائها والسيطرة عليها، فضلاً عن تعاون أجهزة مخابرات أخرى جعلت الخرطوم ذات قدرات واسعة وكبيرة في رصد حركة المتطرفين، ومعرفة أماكن وجودهم، ومتابعة حركتهم في البلاد ودول الإقليم، في وقت تضاءلت فيه هذه الأدوار لاحقاً، وتراجعت درجة اهتمام واشنطن بما يدور في البلاد من تغييرات وتحولات تساعد لحد كبير في تفريخ وتوليد الإرهابيين، وصعود ونمو المتطرفين وتزايد نشاطهم السري في نطاقات واسعة وحيوية، هذا فضلاً عن تراجع اهتمام الحكومة بهذه القضايا، وعدم إيلائها اهتماماً متزايداً يتكافأ مع درجات خطورتها، خاصة وأن الإرهاب ليس قضية محلية، وإنما ملف مع امتدادات إقليمية وارتباطات عالمية، ويتكامل فيها العامل الداخلي مع الخارجي، سواء في تخطيطها وتنفيذها، أو في مكافحتها ومواجهتها، في ظل وقوع البلاد في الطوق والشريط الجهادي مع الواقع الراهن كـ”بيئة متأزمة” وانتشار الوجود الأجنبي بالبلاد، وتدفق الوافدين على نحو غير مسبوق؛ مما يشكل خطورة وتحدياً يواجه السودان حالياً وفي المستقبل القريب، ويجعل البلاد تنتقل للنقطة الحرجة، متحولة لبؤرة ساخنة ومنطقة مشتعلة تتجاوز خطورتها البلاد إلى بلاد ودول أخرى، خاصة أن كشف مثل هذه الخلايا بالشكل المفاجئ يحمل مؤشرات وجود شبكات أخرى تعمل في حلقات تنسيقية مترابطة.