الحرب في السودان تدخل شهرها الثالث والسودانيون من دون رواتب ووزارة المالية عاجزة

تعطل النظام المصرفي وشح في النقود ووزارة المالية عاجزة
بفرح غامر أعلن الموظف حافظ حمد تسلُم راتبه الأول بعد ثلاثة أشهر قضاها من دون أموال، ولا أحد يعرف كيف كان يدبر أمره، ويوفر لأسرته احتياجاتها الأساسية تحت نيران الحرب المشتعلة منذ شهرين، وما نتج عنها من غلاء وشح في السلع الرئيسية والخدمات.

وقال حمد إنه وضع «كيس النقود» في كرسي، وظل يحدق إليه طويلاً كشيء خارق للعادة، وأضاف: «تذكرت أغنية الفنان خلف الله حمد التي تقول: أعاين فيهو وأضحك، وأجرى وأجيهو راجع»، وهي أغنية شعبية قصتها مختلفة تماماً عن قصة عودة «الراتب» لكنها تجسد حاله في تلك اللحظة.

فرحة حمد بتسلم راتبه بعد حرمان طويل، تجسد معاناة السودانيين الذين لم يتسلموا رواتبهم بعد «انهيار» الدولة والنظام المصرفي في البلاد بسبب الحرب المشتعلة منذ 15 أبريل (نيسان) الماضي.

وقال حمد، الموظف في واحدة من المنظمات الطوعية لـ«الشرق الأوسط» الأحد، إنه وأسرته اكتفوا بالمؤونة المتبقية من احتياجات شهر الصوم خلال الأسبوع الأول من الحرب، وتابع: «لا أرى أنني واجهت معاناة شديدة مثل الكثيرين الذين ظلوا في الخرطوم، فقد خرجت بعد 11 يوماً من الحرب إلى مدني».

واندلعت الحرب بين الجيش وقوات «الدعم السريع» في أثناء الصيام، ومنتصف الشهر الميلادي، لذلك لم تُصرف الرواتب بما في ذلك راتب عيد الفطر، ومنذ اليوم الأول للقتال «انهار النظام المصرفي» بل والدولة تماماً، مثلما أغلقت المؤسسات والدور الحكومية والخاصة أبوابها، بعد سيطرة قوات «الدعم السريع» على مركز المدينة حيث الوزارات والمؤسسات الرسمية ومراكز الشركات، ولم يعد هناك من يستطيع إعداد الحسابات، ناهيك عن صرف الرواتب.كما انهارت التطبيقات البنكية وأشهرها «بنكك» الذي يعتمد عليه معظم السودانيين، وتبعاً لذلك توقفت خدمات الكمبيوتر الخاصة بالبنوك فتوقفت حتى فروعها في الولايات.

وانتقل وزير المالية جبريل إبراهيم بوزارته إلى مدينة بورتسودان في شرق البلاد، ليمارس أعماله من هناك، لكنه على ما يبدو، لم يستطع فعل الكثير، ما أثار حنق الناس عليه، وموجة غضب عارمة حتى من قبل عمال الميناء، الذين نقل نشاطه إليهم في مكانهم، فاضطر لصرف «نصف راتب شهر» لهم لعلهم يسكتون قليلاً، لكن الشكاوى المريرة من أداء وزارته، ظلت في تصاعد مستمر، فالناس عادة لا يغفرون لمن يضيق على معيشتهم و«أكلهم وشربهم»، وجرى تداول تغريدات من قبيل: «أين مرتبات العاملين يا السيد جبريل» وغيرها.

ليس العاملون بالرواتب وحدهم هم من يعانون؛ فالعمال الذي يشتغلون باليومية انقطعت أعمالهم، وبلغت الحاجة عندهم مداها، بعد أن توقفت مصادر دخلهم، واستنفدوا مدخراتهم، واتجه بعضهم لبيع مقتنياته مقابل قليل من المال يسد الرمق.

ويقول محمد علي، وهو ميكانيكي، إنه باع حتى «الأسرّة»، وترك أطفاله ينامون على الأرض، ولم يجن سوى القليل من المال استهلكته السلع التي تضاعفت أسعارها عشرات المرات. وأكد أنه وأولاده وزوجته، ظلوا يعتمدون على وجبة من العدس مرة واحدة في اليوم.

وتأثر حتى الأثرياء… كثيرون منهم كانوا يحتفظون بأرصدتهم في البنوك لم يستطيعوا استخدامها بسبب الشلل الذي أصاب النظام المصرفي، وصارت المبالغ الصغيرة التي يمكن الحصول عليها لا تكفي إلا أياماً معدودة. وحتى الأسر التي تعتمد على تحويلات أبنائها المغتربين لم تعد قادرة على تسلُمها.

أما فرحة حافظ حمد بعودة راتبه، فهي تجسيد للكثير من معاناة السودانيين؛ فرغم أنه قلل منها، فقد قال إنه غادر الخرطوم إلى أقاربه في مدينة ود مدني دون أية أموال، وهناك استطاع بعونهم تدبير أوضاعه، لكن عدداً من زملائه ممن لم يتمكنوا من المغادرة يعيشون أوضاعاً مأساوية، وبعضهم أطلق نداءات استغاثة بعدما نفدت مدخراتهم ومؤنهم المخزنة.

ويقول: «تسلمت رسالة من زملاء يستغيثون ويطلبون من يستطيع أن يقدم لهم زيتاً أو دقيقاً أو أية مواد تموينية»، وتابع: «بعض الناس باعوا مقتنياتهم للحصول على طعام»، وتابع: «زملاؤنا في إقليم دارفور هم أكثر الذين عانوا، في مدن زالنجي والجنينة، بعضهم محبوسون في مخزن لثلاثة أيام دون أكل أو شراب».

وتناقلت وسائل التواصل أن بعض الناس بلغوا مرحلة متقدمة من الجوع، فاكتفوا بوجبة واحدة بائسة خلال اليوم قد تكون مجرد خبز جاف، أو فضلات طعام. وانتشرت ظاهرة «تكافل غذائي» عن طريق طهي أغذية شعبية تعرف بـ«البليلة» تصنع من نوع من البقوليات، وتطبخ على الماء ويضاف إليها الملح، وتوزع على الأسر في الحي الواحد لتسكت جوع الأطفال.

وقال حمد: «الناس الذين فروا إلى المدن الولائية لم يكونوا مستعدين مالياً، فواجهوا الأسعار الغريبة للإيجارات، وتعرضوا لاستغلال بشع بما في ذلك أسعار وسائل النقل التي رفعت أسعارها بصورة خرافية، ما اضطر بعضهم للعودة للخرطوم مفضلين العيش وسط الحرب عوضاً عن الموت جوعاً».

وليس الطعام وحده هو الأزمة التي واجهها الناس في الخرطوم؛ فمياه الشرب نفسها تحولت إلى أزمة طاحنة بسبب توقف محطات المياه منذ بداية الحرب، وانقطعت الخدمة عن مدينة بحري كلها، وما زال أهلها يعانون العطش.

الكاتب عبد الله رزق دعا على حسابه على «فيسبوك» أصحاب محلات البقالة لإعطاء سكان الحي بعض احتياجاتهم على أن يدفعوا أسعارها لاحقاً. وأفلحت الدعوة في بعض المناطق، وفشلت في مناطق أخرى، لكن المحلات نفسها اضطرت لإغلاق أبوابها، ونقل بضائعها لأماكن آمنة، فيما تعرض الكثير منها للنهب.

ويتناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي، حكايات مؤلمة عن موت أشخاص حبستهم الحرب جوعاً، ليس لقلة نقود عندهم، بل لانعدام السلع الأساسية أو خطورة الوصول إليها. ونقلت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في وقت سابق خبر وفاة البريطانية من أصول سودانية «أزهار شلقامي» جوعاً في منزلها، بعد أن فشلت الحكومة البريطانية في إجلائها مع الرعايا الآخرين، كما تناقلت وسائل التواصل حكاية عن وفاة سيدتين شقيقتين في حي العمارات الثري جوعاً في منزلهما، مع كثير من حكايات الجوع والعطش المؤدي إلى الموت.

ولا يعرف متى يستعيد النظام المصرفي قدرته على العمل، ولا يعرف متى تستطيع وزارة المالية تسديد الرواتب، فالحرب التي استطالت ونهب البنوك والمصارف بما فيها بعض فروع البنك المركزي، قد تعقد من مهمة الدولة في الإيفاء بالتزاماتها، حتى بعد توقف الحرب…إن توقفت

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.