الخرطوم وبكين .. صداقة تحيط بها الهواجس
“إن عرفت الوجهة فلا يهم الطريق” لا يبدو أن الخرطوم معنية بالعبارة أعلاه، إذ إن السودان الذي يواجه انهياراً اقتصادياً مريعاً، بات على مفترق الطرق، فهو لم يفقد وجهته فقط، بل اختلطت عليه كثرة “الطرقات”، وبات متنازعاً في تحالفات واصطفافات لطالما سعى حكامه لأن يختبئوا خلف من يوفر لهم الاستمرار على مقاعد. يوم الاثنين وصل المبعوث الصيني الخاص إلى الشرق الأوسط، السفير تشاي جيون سوف، في زيارة رسمية إلى السودان يجري خلالها لقاءات مكثفة مع عدد من المسؤولين بالدولة. توقيت الزيارة في ظل حالة التوهان الذي يعيشه العالم نتيجة الغزو الروسي لأوكرنيا وتداعيات هذا الغزو، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية الخانقة التي يشهدها السودان الآن، والاتجاه لعودة السودان لعزلة دولية مجدداً، وتجميد دعم الغرب وواشنطن له كلها هواجس يحملها مبعوث بكين ربما داخل حقيبته أو في “يده”.
شكلت الصين حليفاً إستراتيجاً خاصة إبان عهد الرئيس المعزول عمر البشير، بل واعتبرت بكين الملاذ الآمن الذي احتمت به حكومة “الجنرال” بعد أن فرضت عليه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية سيل من العقوبات وفرضت عليه عزلة دولية بعد أن وضعت اسم السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، وقتذاك وجدت الصين الطريق سالكاً نحو سوق أفريقي واعد، دون منافس غريمها “أمريكا” بل وبوابة نحو الآخرين من جيران الخرطوم في العمق الأفريقي، مقابل ذلك فتح الجنرال أبوابه أمام التنين وشاركت كبرى الشركات الصينية في صناعة قطاع النفط والإنشاءات، وشهدت مدن السودان وجود جالية صينية نشطة ساعدت في تحقيق حلم دولة لتصبح بترولية وتحقيق قدر من الرفاه للشعب وإن كان مؤقتاً.
لكن حلف الخرطوم وبكين لم يدوم طويلاً إذ إنه وبعد سقوط البشير في أبريل 2019، تغيرت خارطة تحالفات القادمون الجدد، وبدا واضحاً أن إقدام قادة الفترة الانتقالية بقيادة رئيس الوزراء آنذاك عبد الله حمدوك، حيث اتجهت نحو إقامة حلف مع عداء “البشير” وصار الطريق نحو واشنطن والغرب ممهداً وقدمت أمريكا قربان محبتها، حيث سارعت لإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في أكتوبر 2020، وبدا الدعم الأمريكي والأوروبي يتدفقى للحكومة الانتقالية، وبالتالي تباعدت العلاقة ما بين الخرطوم وبكين، وبدأت حكومة الانتقال تمحو بعض آثار التنين حيث قامت بإلغاء الإدارة الصينية بوزارة الخارجية ودمجتها ضمن الإدارة العامة للشؤون الآسيوية والعربية، بل وألغت شعبة اللغة الصينية في جامعة الخرطوم، لكن في المقابل قلل بعض المراقبين في حديثهم لـ”السوداني” من كل ذلك وبددوا المخاوف من أن يصبح السودان ساحة لصراع التحالفات، وبالتالي يفشل في إقامة علاقات سوية مع العالم تقوم على مراعاة مصالحه أولاً.
ويضيف ذات المراقبين أن بكين لم تقف مكتوفة الأيدي تجاه الوضع الجديد في السودان، إذ لا تزال تمتك من كروت الضغط للعودة مجدداً للسودان، وهو كرت الدين السوداني للصين الذي يعتبر الأكبر الآن بعد جدولة الكويت ديونها على السودان، فيما خففت البلدان الغربية من ديونها مع جدولتها، ويضيفون أن مديونية السودان لصالح الصين بلغت (2.5) مليار دولار، في حين تقدر استثمارات بكين في البلاد بنحو (15) مليار دولار، بحسب آخر إحصائيات حكومية.
وينبه ذات المراقبين أن بكين تمتلك الكثير من المزايا وعلى رأسها انتهاجها سياسية تحصنها من الدخول فى الشؤون الداخلية لأي دولة وتمسكها بأن تمر عبر بوابة الاقتصاد، وبالتالي يبدو عصياً على منافسيها إزاحتها عن القارة الأفريقية وبالتالي السودان، فهي تملك اقتصاداً قوياً ولا تتدخل في شؤون البلاد التي تتعامل معها، فالاقتصاد “الصينى القوى وقدرتها على التعامل مع الدول الفقيرة والنامية السودان من خلال نظام مرن يسمح بالتسديد على فترات طويلة للديون.
الصحفى والمهتم بالعلاقات السودانية الصينية، محمد عبد العزيز ذهب، فى حديثه أمس إلى أن بكين تسعى إلى تحقيق مصالحها الإستراتيجية دون التوقف كثيراً في من “يحكم” لكن محمد ينبه إلى وجود مشكلة ماثلة الآن ستواجه هذا المسعى الآن وهي أنه ومنذ انقلاب البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر على الحكم المدني لم يحقق الاستقرار ولم يقدم نفسه كـ”نظام” جيد يمكنه من حكم البلاد وتسيير دفة البلاد، أضف لذلك فإن ما قام به البرهان أعاد البلاد مرة أخرى لتواجه معطلة العزلة الدولية والإقليمية، ولم ينجح في كسرها، ولم يحقق قدراً من القبول على المستوى الشعبى بدليل استمرار الاحتجاجات عليه، ويلفت إلى أن هذه كلها تحديات كبيرة تواجه حكومة بكين لتحقيق مصالحها أو فيما يلي جهودها لتقديم أي مساعدات تفك الاختناق الاقتصادي الذي يحاصر حكومة البرهان الآن.