السودان بين التجاذبات الدولية والإقليمية وعملاء الداخل

شأن أي دولة أخرى في المحيطين الإقليمي الأفريقي والعربي فإن السودان لا يستطيع العيش بمعزل عن التأثيرات الإقليمية والدولية، أما خصوصية التوقيت بأن صادف اندلاع ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 أحداثاً إقليمية ودولية كبيرة مستمرة فقد ضاعفت الاهتمام بما يجري داخلها. ولعل أبرز مؤشرات هذا الاهتمام أن تحتل أحداث البلد فاعلية ومكانة بارزة ضمن أزمات أخرى مثل حرب “تيغراي” والانقلابات في بعض الدول الأفريقية.

وفي خضم مرور السودان بفترة انتقالية سمتها الشراكة المتنافرة بين العسكريين والمدنيين شارك الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، أخيراً، حيث قدم خطاباً عن ملامح الأوضاع الداخلية بالسودان إلى جانب جهود البلاد الإقليمية والدولية لترسيخ السلام ومكافحة الإرهاب ومحاربة الجريمة العابرة للحدود وقضايا اللاجئين وغيرها.

السودان-2.
أعلن الاتحاد الأفريقي أخيراً عن إبداء استعداده لاستئناف المشاركة في العملية السياسية بالبلاد (اندبندنت عربية – حسن حامد)

وتعرضت هذه المشاركة لتقييم متباين بين من يراها كوة ضوء يمكن أن ينفذ منها السودان من وهدته ويتجه لحل أزماته ومن يراها مشاركة عادية تلقي بأعباء والتزامات إضافية على العسكريين. وتخللت أحداث عدة الفترة الانتقالية التي بدأت من 21 أغسطس (آب) 2019 ويفترض أن تنتهي بإجراء انتخابات في عام 2024، منها توقيع الحكومة اتفاق جوبا للسلام في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020 كما حدثت خلالها الإجراءات التي فرضها البرهان في 25 أكتوبر 2021، التي وصفها المكون العسكري بأنها “خطوة تصحيحية لإنهاء سيطرة فئة صغيرة من المدنيين على الحكم”، بينما رفضها المكون المدني وشملت فرض حالة الطوارئ وتجميد العمل بالوثيقة الدستورية.

وفي سياق الوضع الراهن يمر السودان بمرحلة تجاذب دولي بني على أساسه التجاذب الاقليمي ونتج عن كل ذلك تعارض في خطاب القوى السياسية وفقاً لتفضيلاتها الشخصية فمن يقترب من العسكريين هو بلا أدنى شك خصم للمدنيين والعكس صحيح. ويحدث ذلك من دون اعتبار أولويات الجميع ينادي بشعاراتها كما لعبت محددات معينة دوراً في أن يكون للوسطاء الإقليميين بخاصة بعد تجاذبي أكثر بروزاً.

تمييع القضية

لجان المقاومة وبعض القوى السياسية التي انخرطت في احتجاجات مناهضة للحكم العسكري مطالبة بتنحي الجيش والتراجع عن قرارات 25 أكتوبر وتمديد الفترة الانتقالية قابلت تأكيد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش خلال لقائه في 23 سبتمبر (أيلول) رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان بضرورة “التوصل إلى اتفاق سياسي شامل يعيد الانتقال السياسي الذي يقوده المدنيون في السودان”، بالسخرية ممن اعتقدوا أن اللقاء كان بمثابة رضا دولي عن العسكريين ومباركة لخطوات البرهان “التصحيحية” وربما استمراره في الحكم. وليس هناك جديد في تجديد البرهان التزام الجيش الخروج من العملية السياسية مع تأكيده شرط توافق القوى المدنية على حكومة انتقالية تنقل السودان إلى انتخابات ونظام حكم ديمقراطي.

في المقابل، خرجت آراء تفيد بأن مطالبة غوتيريش بمثابة تمييع لقضية استيلاء العسكر على الحكم وأنه ليس للأمم المتحدة دور رئيس بمعزل عن نهج الولايات المتحدة وأن الأمم المتحدة تظل مطالبة بإجراء إصلاحات في منظومة مجلس الأمن الدولي وهي لا تخضع لمظلة القانون الدولي بل لتأثير قوى دولية ما يعمل على تسييس دورها. وهذا الرأي أثير في مواضع أخرى شهدت معالجة مجلس الأمن الدولي قضايا أفريقية غلبت فيها الاعتبارات السياسية على الالتزام بمبادئ القانون الدولي للأمم المتحدة، وأن تدخلها في الأزمات بقوات الحماية الدولية بتسمياتها المختلفة لم تنجح في إيقاف الحروب أو الانقلابات لأنها ترفع شعارات حماية حقوق الإنسان، والديمقراطية ومحاربة الفقر والديكتاتورية، بينما في الواقع يمكنها التعامل مع نظم ديكتاتورية.

نقاط تماس

وبعد تأكيد الاتحاد الأفريقي أن إجراءات البرهان انقلاب عسكري وجمدت على أثره عضوية السودان في المنظمة الإقليمية لم يتقدم نشاط الآلية الثلاثية التي تضم ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة “يونيتامس” فولكر بيرتس ومبعوث الاتحاد الأفريقي محمد حسن ولد لبات وممثل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية “إيقاد” إسماعيل أويس نحو آفاق جديدة. وأعلن الاتحاد الأفريقي، أخيراً، عن إبداء استعداده لاستئناف المشاركة في العملية السياسية بالبلاد، لكن يظل قرار تجميد عضوية السودان قيد النظر. وربما يتحرك القرار بعد أن التمست البلاد من الاتحاد الأفريقي خلال لقاء البرهان بالرئيس السنغالي رئيس الدورة الحالية للاتحاد الأفريقي ماكي سال، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، إعادة عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي.

ولم تتغير الأحوال إلى الأحسن بل ازدادت الأزمة الاقتصادية وقوبلت باحتجاجات مستمرة ومن ضمن النتائج المهمة لتلك الفترة أيضاً تشكل دينامية إقليمية جديدة على استعداد لتوسيع قاعدة المشاركة مع حكومة الفترة الانتقالية لاعتبارها الظرفي. وصحيح أن إجراءات 25 أكتوبر لاقت اعتراضات من المنظمات الإقليمية وعلى رأسها الاتحاد الأفريقي وصلت إلى توقف التعاون الاستراتيجي الإقليمي، وتجميد عضوية السودان، لكن تفهم الاتحاد الأفريقي ظروف المرحلة الراهنة التي تشبه إلى حد بعيد ظروف الانقلابات في الدول الأفريقية الأخرى. ومع ذلك، انتظر الاتحاد الأفريقي إلى أن أزالت القوى الدولية نقاط التماس الساخنة بين المبادئ الديمقراطية، والواقعية السياسية، فتحرك من خانة المواجهة إلى المشاركة. ويمكن التأكد من الفرصة المتاحة للسودان في حال نجح في الضغط لضمان مشاركة البلاد في القمة الأميركية – الأفريقية في واشنطن في ديسمبر المقبل.

إعفاء الديون

وتمثل الديون عنصر تجاذب قوي بين الدول الدائنة والمدينة وظل السودان بعد أن أثقلته الديون المتراكمة من عهود سابقة وتفاقمت في ظل النظام السابق عاجزاً عن سداد ديونه التي كانت قد بلغت 60 مليار دولار أوان قيام الثورة. وفتح التغيير السياسي الباب واسعاً في شأن تحمل مسؤولية الديون بشكل مشترك عن طريق إجراء عملية إصلاح اقتصادي قاسية مقابل الإعفاء. وبتركيز التحليلات الاقتصادية التي فسرت مستوى العجز عن السداد نتيجة الفساد في ظل النظام السابق وتقديم بعض الدول قروضاً رديئة تقبلها النظام السابق على الرغم من شروطها المجحفة لتثبيت أركان حكمه رأت أيضاً أن مبدأ الإعفاء من الديون له تطبيقات واضحة على الديون العامة وهي حال واحدة يصبح بفعلها الدائن والمدين في حال أفضل وهي الإلغاء الشامل للدين نسبة للظروف السياسية والاقتصادية التي يمر بها السودان.

وظلت الخرطوم تدعو إلى استئناف عملية إعفاء الديون والاستفادة من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون “هيبك” بعد أن علقتها الدول الغربية والمؤسسات المالية الدولية. وكانت دول ومؤسسات مالية قد تعهدت في مؤتمر برلين الذي انعقد في 25 يونيو (حزيران) 2020، بدعم اقتصاد السودان بـ1.8 مليار دولار، في وقت حصلت البلاد على قرض بملياري دولار من البنك الدولي في مؤتمر باريس في 17 مايو (أيار) 2021. وكانت على وشك إعفاء نحو 50 مليار دولار من ديون السودان عندما فرض البرهان قرارات أكتوبر.

سلوك تجاذبي

وعند قيام الثورات تحاول الدول الحفاظ على علاقاتها باتباع المسار الدبلوماسي وهو مسار محايد بطبيعته وبعد تكشف الحكومة التالية سواء أكانت انتقالية أم غيرها تبدأ كل دولة في تحسس نقاط قوتها وهو ما حدث في السودان بعد ثورة ديسمبر 2018. وفي الواقع فإن الفترة الانتقالية المضطربة المستمرة إلى 2024 كشفت عن منهجية التفكير في مثل هذه الظروف، لدى القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة، إذ استجمعت ما تبقى من قوتها التي خرجت بها من مسارح دولية أخرى لصياغة مشروع سودان جديد وتوجيه مساره. وهذا ليس بالضرورة أن يتم في شكل إجراءات مباشرة، وإنما باتباع قائمة المطالب للحصول على الرضا الدولي فالعقوبات ظلت تحافظ على مسار القوة التي تمتلكها الولايات المتحدة في السودان، ووضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب ثم إزالته بعد دفع تعويضات ضحايا تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام، هو أيضاً أحد مصادر القوة التي يمكن بها التحكم في مصير الدولة، بحجب كل أشكال التعامل الدولي معها.

وبينما تطبق الولايات المتحدة سلوك المحافظة على موقعها في سلم القوة السياسية في السودان بتوظيف الأزمة السياسية، فإن دولاً أخرى مثل الصين وروسيا، تعمل وفق إطار اقتصادي وتتبع سياسة الاحتواء بمشاريع في حل للأزمة الاقتصادية، يعزز السلوك التجاذبي لقوى أخرى مثل المنظمات الإقليمية التي يمكنها تتبع النهج ذاته في اختراق مجال البلاد السياسي وتصويره كأمر معتاد بل مطالب به.

مظاهر التأثير

وبتطاول الأزمة السودانية وعصيانها عن الحلول المقدمة من كل الجهات ربما تثار قضية التمادي في تدويلها ومن الممكن أن تستمر أكثر من ذلك. وعلى ذكر هذه الوقائع ربما تتعين معالجة بعض مظاهر التأثير التي أحدثتها الفرصة المتاحة أمام زيادة مساحة حضور القوى الإقليمية في القضايا الداخلية من دون إحداث اختراق في المشكلة القائمة وعجزها عن إحداث توافق بين الفرقاء السياسيين وهذا الدور تعاظم نتيجة للفراغ السياسي وعدم اضطلاع القوى السياسية بالدور المنوط بها. وقد شجعت هذه البيئة على ازدياد فرص التدخل، بينما ضلت مبادرات الحل الداخلي المتفرقة الطريق. ومع ذلك، فإن السودان في حالته الانتقالية هذه لا يزال قادراً على خلق زخم إقليمي إيجابي، وكان من المفترض الاستفادة من الفرص المتوفرة في محيطه ليحدث العكس على اعتبار أن التعاون الاستراتيجي هو مصلحة إقليمية الحاجة إليها أكثر إلحاحاً في ظل حالات التحول والاستقطاب.

مني

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.