ما قصة مصطلح “الفصل العنصري” الذي يقضّ مضجع إسرائيل؟
حذر لودريان، وزير خارجية فرنسا، إسرائيلَ من احتمال توافر مكونات “فصل عنصري”، فجن جنون نتنياهو، وردّ بشكل عنيف تماماً، واستدعت تل أبيب السفير الفرنسي “ووبخته”.
من المهم في البداية التوقف عند تصريحات الوزير الفرنسي نفسها، التي جاءت قبل أيام عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس والموقف الحالي بشكل عام، وضرورة التوصل لحل سياسي للصراع يقوم على حل الدولتين.
عبر لودريان عن دعم الحكومة الفرنسية الحالية لإسرائيل بصورة واضحة، وهو الموقف الرسمي الذي تبنته باريس أثناء العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزة، ومن قبله إجراءات الاحتلال القمعية بحق الفلسطينيين في القدس، وفي معرض حديثه تطرق لودريان إلى ما وصفه “بالعنف” داخل المدن الإسرائيلية بين المواطنين اليهود وفلسطينيي الداخل.
ماذا قال الوزير الفرنسي تحديداً؟
حديث لودريان بقناة “فرانس 24” جرى الأحد 23 مايو/ أيار، وتحدث خلاله عن “صدامات دموية وقعت في المدن المختلطة داخل إسرائيل بين سكانها الفلسطينيين واليهود”، وأضاف: “هي المرة الأولى التي يحصل فيها ذلك، ما يظهر أنه في حال اعتماد حل آخر غير حل الدولتين ستتوافر مكونات فصل عنصري يستمر لفترة طويلة”.
الوزير الفرنسي كان يتحدث إذن من أرضية “الحليف لإسرائيل” والحريص عليها، فهو لم يعبر عن انتقاده لنظام الفصل العنصري الذي تطبقه إسرائيل بالفعل على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، والذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وعلى الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، رغم أن منظمة هيومان رايتس ووتش قد توصلت إلى هذه النتيجة بشكل حاسم.
ففي أبريل/نيسان الماضي، أصدرت المنظمة الأمريكية تقريراً مستنداً إلى استقصاء دقيق، وخلُصت فيه إلى أن السلطات الإسرائيلية مُدانة بارتكاب جرائم فصل عنصري واضطهاد للفلسطينيين، ليس فقط في الأراضي المحتلة، ولكن أيضاً في المناطق التي تعتبرها إسرائيل تابعة لها. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تُصدر فيها منظمة دولية معنية بحقوق الإنسان تقريراً يحمل استنتاجات من هذا النوع، بناء على بيانات لمنظمات فلسطينية وإسرائيلية كانت قد توصلت إلى النتائج نفسها خلال السنوات القليلة الماضية.
نتنياهو يصف التصريح “بالوقح والكاذب”
لكن أمس الأربعاء، 26 مايو/أيار، انتفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأصدر بياناً وصف فيه تصريح لودريان بأنه “ادعاء وقح وكاذب، وليس له أي أساس”.
وأضاف نتنياهوفي بيانه: “أود أن أعرب عن احتجاجي الشديد ضد حكومة فرنسا، بشأن تصريحات وزير الخارجية التي أدلى بها في مقابلة تلفزيونية”، مضيفاً: “في إسرائيل كل المواطنين متساوون أمام القانون بغض النظر عن أصلهم. لن نقبل بأي محاولة منافقة وكاذبة لتعليمنا الأخلاق في هذا الشأن”.
واليوم الخميس، استدعت الخارجية الإسرائيلية سفير باريس لدى تل أبيب لـ”التوبيخ”، احتجاجاً على تصريح وزير خارجية فرنسا، الذي حذر فيه من احتمال أن تتحول إسرائيل إلى دولة “فصل عنصري”.
وقالت صحيفة معاريف: “استدعى وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي السفير الفرنسي آريك دانون لتوبيخه، إثر تصريحات لوزير الخارجية الفرنسي انتقد فيها إسرائيل”.
ونقلت الصحيفة العبرية عن أشكنازي قوله: “تصريح وزير الخارجية الفرنسي غير مقبول بشكل قاطع”، وأعرب عن “تطلع إسرائيل من مسؤولي الدول الصديقة عدم التعبير عن أنفسهم بشكل غير مسؤول يُولد نشاطاً مناهضاً (لتل أبيب)”.
ومن الطبيعي أن يثير رد الفعل العنيف هذا من جانب نتنياهو ووزير خارجيته الدهشة، خصوصاً أن تل أبيب تواجه ضغوطاً دولية متزايدة ربما لم تواجه مثلها من قبل وتحتاج “لأصدقائها”، ومن بينهم الحكومة الفرنسية، فلماذا هذا التصعيد غير المتناسب مع ما صدر عن لودريان؟
هل تمارس إسرائيل “الفصل العنصري”؟
ترجع المرة الأولى التي صدر فيها تقرير أممي يجيب عن هذا السؤال بشكل مباشر، إلى مارس/آذار 2017، حين أصدرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) تقريراً يوثق الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي، ويخلص إلى أن إسرائيل أنشأت “نظامَ فصلٍ عنصري” يضطهد الشعب الفلسطيني بأسره ويهيمن عليه.
وحلل التقرير السياسة الإسرائيلية في أربعة مجالات، هي التمييز الرسمي المقنن بحق المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وازدواجية النظام القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة، وحقوق الإقامة الهشة للمقدسيين الفلسطينيين، ورفض إسرائيل السماحَ للاجئين الفلسطينيين بممارسة حق العودة، وخلص التقرير إلى أن نظام الفصل العنصري في إسرائيل يجزئ الشعب الفلسطيني ويخضعه لأشكال مختلفة من الحكم العنصري.
وكانت تلك هي المرة الأولى التي تتناول فيها هيئةٌ تابعة للأمم المتحدة مسألةَ الفصل العنصري في إسرائيل رسمياً، وهو ما أثار رد فعل رافضاً من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ ندَّد السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة وقتها بالتقرير، ودعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى رفضه.
ومع اندلاع ما وصفه البعض بانتفاضة فلسطينية شاملة خلال حرب غزة الأخيرة، شارك فيها فلسطينيو الداخل والفلسطينيون في الأراضي المحتلة في القدس والضفة، أصبح الحديث عن التمييز الذي تمارسه إسرائيل بشكل ممنهج ضد الفلسطينيين جميعاً أحد أبرز جوانب النقاش الدائر حتى في الإعلام العبري ذاته.
وفي هذا السياق، نشرت صحيفة هآرتس تقريراً رصد ما وصفتها بعوامل إثارة غضب “عرب إسرائيل”، جاء في ثناياه: “المدن المختلطة في وسط البلاد تمثل عنصراً آخر من عناصر هذه الاضطرابات، إذ يمكن للتفاعل اليومي بين اليهود والعرب أن يكون وصفة للتعاون وخفض التوترات، لكن في المدن الإسرائيلية المختلطة، خصوصاً في وسط البلاد، يرى المرء تمييزاً ضد الكثير من السكان العرب. ولا يجب أن يكون الاحتجاج على توغل اليهود اليمينيين في أحياء يافا والرملة واللد مفاجئاً، فالعرب هناك يمرون بوقت عصيب من الناحية الاقتصادية-الاجتماعية، وهم ينظرون إلى الاحتجاج في الشيخ جراح باعتباره مثالاً على نضالهم الخاص”.
وكانت مدن مثل اللد والناصرة وغيرهما قد شهدت اعتداءات من جانب المستوطنين والشرطة الإسرائيلية على المواطنين العرب، ما أدى لاشتعال الموقف، وتحولت شوارع تلك المدن إلى ما وصفه الرئيس الإسرائيلي “بشوارعنا تشهد حرباً أهلية”، وهو ما أرجعه كثير من المراقبين الإسرائيليين أنفسهم إلى ضيق فلسطينيي الداخل ذرعاً بسياسات التمييز ضدهم في جميع المجالات.
وفي ضوء هذه التطورات وصل توصيف “الفصل العنصري” في إسرائيل إلى آخر مكان كان يمكن أن يخطر على بال أحد، والمقصود هنا أروقة الكونغرس الأمريكي نفسه، حيث انتقدت المزيد من الأصوات (التقدمية في غالبها) انتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية، إلى جانب دور الحكومة الأمريكية في إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، بعد أن شبّهته جماعات حقوق الإنسان وكبار الزعماء -مثل الرئيس الجنوب إفريقي سيريل رامافوزا- بنظام الفصل العنصري.
الخلاصة هنا إذن هي أنه من الواضح أن وزير الخارجية الفرنسي قد وضع إصبعه في الجرح النازف دون أن يقصد، بمعنى أن صورة إسرائيل كنموذج للديمقراطية الغربية واحترام حقوق الإنسان، التي اعتادت الأنظمة الغربية على ترديدها طول الوقت، قد اهتزت لدرجة أفقدت نتنياهو صوابه فلم يميز في تصريح لودريان بين “النصيحة” و”الانتقاد”.