المقارنة بين انقلاب ١٩٨٩م وانقلاب ٢٠١٩م
شهدت الفترة الممتدة بين 1989 و2018 حكما للتيار الإسلامي الذي يُعبر عنه في السودان بـ«حكم الإنقاذ الوطني». ولا شك أنه ما من حكومة وطنية في تاريخ السودان منذ الدولة السنارية قد استقر لها حكم في السودان لربع قرن من الزمان. وهذه الحقيقة الموضوعية ذاتها هي من أكثر الحقائق إثارة للجدل. إن القراءة الموضوعية للتاريخ الراهن أمر متعسر في كل الأحوال، وبخاصة في الشأن السوداني حيث ينقسم الفرقاء إلى موالاة ومعارضة. ولا يستبقون وسيلة من القول أو الفعل للاستهزاء بالطرف الآخر وازدرائه. بيد أن نصيب كل ادعاء للمطابقة للواقع متروك لأهل الشهود، والشهادة من المواطنين السودانيين الذين لا ينسبون أنفسهم إلى هؤلاء ولا إلى أولئك. وإنما يحكمون على الجميع بأعمالهم كما كان شعار ما سُمي بـ«ثورة 17 نوفمبر» التي قادها الفريق إبراهيم عبود. وكان شعارها «احكموا علينا بأعمالنا». و«الإنقاذ» اليوم ترتضي هذا المعيار العادل. وهي تدرك تماما أنها لم تكن بمعصومة عن الخطأ ولا الخطيئة، فما من بشر، سوى الأنبياء، معصوم من الخطأ والخطيئة. لكن خصوم «الإنقاذ» لا يرون فيها إلا شرور الأعمال وسيئات الأنفس. لا ينكر أحد من المراقبين للحال السوداني إلا أن يكون مكابرا أن اسم الإنقاذ كان مستحقا في أوانه. لأن سائر الشأن العام في السودان في عام 1989 كاد يؤول إلى مقام الصفر. فالأمن غاب وتوارى وباتت البلاد تنتقص من أطرافها. والإنتاج الزراعي وغيره توقف بالاعتصامات والإضرابات والمطالبات وعدم توفير المتطلبات له. والإنتاج الصناعي توقف بسبب انقطاع الكهرباء الدائم عن المصانع، وانعدمت السلع في الأسواق. وأصبح من عادة الناس الاصطفاف للحصول على الخبز والوقود وسائر السلع الاستهلاكية. وكان احتياطي البلاد من العملات الحرة لا يكاد يبلغ خمسة ملايين دولار. ولذلك كله لو أن الحكومة الجديدة سُمّيت حكومة «المهمة المستحيلة» لكان حُق لها. بيد أن كل ما سلف لن يغني عن إطلالة على ما أنجزته «الإنقاذ» وما قصرت عنه في مدى حكمها الذي استمر لربع قرن من الزمان. ولأن الاقتصاد هو عماد الحياة فمنه إنما يكون الابتداء. فمن مربع يكاد يسامت الصفر انطلقت حكومة الإنقاذ لتطبيق سياسات التحرير الاقتصادي التي لم تجرؤ حكومة على تطبيقها إلا بمساندة كبرى من تحالف دولي، بدءا من «مشروع مارشال» إلى مشروع الإعفاء من الديون الأفريقية. بيد أن السودان اجترح سياسة التحرير الاقتصادي في ظل الحصار الخانق دوليا وإقليميا. وبدأ التحرير الاقتصادي بتحرير سعر الجنيه السوداني لإيقاف المضاربات التي حرمت الخزينة العامة من عائداته، ثم تحرير التجارة، ومن بعد سياسة الاستخصاص التي بدأت بقطاعات النقل والاتصالات، ثم إلى سائر المرافق الأخرى. ولقد حققت السياسة نجاحا باهرا في مجال النقل البري والاتصالات. وارتفع الإنتاج الصناعي بمعالجة مشاكل الطاقة والكهرباء وتخفيض الضرائب ليعود فيسهم في نمو الناتج الإجمالي بنسبة مقدرة. وتوسع الإنتاج الصناعي خاصة في مجال صناعة الحديد والإسمنت والأدوية والسكر والصناعة التجميعية من السيارات إلى الإلكترونيات إلى الطائرات. أما قطاع الطاقة فقد شهد توسعا كبيرا باستكشاف النفط والبلوغ بإنتاجه إلى خمسمائة آلاف برميل في اليوم قبل الانفصال. ومضاعفة إنتاج الكهرباء عدة أضعاف بإنشاء سد مروي وتعلية سد الدمازين وتوسيع إنتاج الكهرباء في سد سنار ومد خطوط الكهرباء إلى كل أنحاء البلاد شرقا وغربا وجنوبا، واستكمال بناء البنية التحتية للنفط ممثلة في موانئ النفط وخطوط الأنابيب.
اما المقارنة بين انقلاب ١٩٨٩ وانقلاب ٢٠١٩.. نجد اختلاف كبير ولا تجوز المقارنة.. ماقبل العام 1989 كان الشعب السوداني ،يمر بأوضاع عصيبة جداً محملة بالأعباء والصعاب، ليس على المستوى المعيشي فقط بل حتى الصراع بين الأحزاب السياسية ، وتدهور العلاقات الخارجية ، وفوضى عارمة في كل الولايات السودانية ، وانتشار الفساد في ارجائها ، فكان لابد من إنقاذ حقيقي للوضع، فرأى العميد عمر حسن البشير ورفاقه من أعضاء مجلس قيادة الثورة ، أن البلاد في وضعية مأسوية تجبر كل وطني غيور أن يرثي لحالها ويسرع لنجدتها وإنقاذها ، فكانت ثورة الإنقاذ في يونيو 1989 ، بمساعدة دكتور حسن الترابي زعيم الجبهه الاسلاميه آنذاك ، وتعيين البشير رئيساً للسودان ، وبعد إعلان خطابة على الشعب استبشر السودان خيراً ، وعمت بشائر الفرح والنصر في عيون الأمة المكلومة وخرجت جماعات غفيرة من أطياف الشعب لمناصرته ، وبعد 30 عام من الرخاء والأمن والاستقرار والانتعاش الاقتصادي ، بالرغم من الحصار الاقتصادي الذي عان منه ، إلا أن الأوضاع كانت أفضل من ذي قبل ، وفي آخر عام 2018 تم رفع الدعم عن المحروقات ، الأمر الذي برره البشير بأنه لمصلحة الشعب ، ولكن ظن الشعب السوداني أنها فترة ستطول ،فثار عليه ، فاتفق ضباطة عليه وقاموا بعزله وإعلان تنحيته على يد عوض بن عوف الذي لبث يوما في الحكم ومن ثم انقلب عليه البرهان وعين نفسه رئيساً للمجلس الإنتقالي ، ولكن من الملاحظ أن انقلاب عمر البشير في 1989ضد الصادق المهدي ، وانقلاب عوض بن عوف في 2019 ، جاءا لإنقاذ الشعب السوداني من تدهور الأوضاع وانقاذه من غلاء المعيشة ، ولكن ما يثير الحيرة والتعجب هو أن مدبري انقلاب 1989 ، تتم محاكمتهم على محاولتهم لإنقاذ البلاد ، بينما لا تتم محاكمة مدبري انقلاب 2019 رغم أن منفذيه حذو نفس حذو البشير وجماعته في انقلابهم
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.