الموت البطيء بسبب التعدين العشوائي ..!!


يعتبر السودان من الدول التي تمتلك مخزونا جيدا من الذهب حيث يتواجد بكميات كبيرة في مناطق مختلفة كجبال النوبة، وشمال السودان، وفي اقليم دارفور، وقد عزمت الدولة على استخراجه والاهتمام به باعتباره ثروة يمكن أن تقلل من الضغوط الاقتصادية التي تمر بها البلاد خاصة عقب انفصال الجنوب ولعدم ايجاد حلول جزرية توازن كفة الانهيار الاقتصادي، وتم التعاقد مع عدد من الشركات لتنقيبه بالتقنية الحديثة، وقد اتجه بعض الأهالي من سكان تلك المناطق لاستخدام معدات يدوية لذلك وهو ما يسمى بالتعدين الأهلي، وهنالك هجرة مستمرة من مختلف اقاليم السودان الى هذه المناطق الغنية بمعدن الذهب بحثا عن رزقهم وحظهم وتحسين أوضاعهم المعيشية، وهنالك عدد كبير من المعدنين يقدر بالآلاف ينتشرون على تلك المناطق، منهم من حالفه الحظ، ومنهم من خاب أمله، ومنهم من راح ضحيةً داخل الآبار والمناجم. هنالك جانب يغفل عنه هؤلاء المعدنون، وتتجاهله الجهات المسؤولة وهو تأثير الزئبق بعد اضافته في عملية الغسيل عبر المعدات التقليدية للحصول على الذهب حيث ينتج الزئبق في شكل نفايات أو ما يسمى ب( الكرته ) وتحتوى على حبيبات مطحونة مخللة بكميات كبيرة من الزئبق. ويعتبر الزئبق من المواد الثقيلة التي لها لزوجة عالية حيث لا يتفاعل مع تلك الحبيبات بل يظل عالقا ومختلطا بها في شكل أجزاء صغيرة، وبفعل الرياح يتم حملها مع الأتربة من ( الكرته ) التي تكون على شكل تلال صغيرة، و بالتالي انتشار الزئبق على مساحات ممتدة تفاوت الكيلومترات، ويتواجد الزئبق في التربة، والهواء، والماء، وعند حلول الخريف فان انتشاره على سطح التربة يتم بصورة سريعة وجزء منه يتسرب الى طبقات الأرض مما يؤدي الي تلوث المياه الجوفية. الزئبق قاتل ويسبب أمراض تؤدى بحياة الشخص المصاب وذلك عندما يتراكم في جسم الانسان ويصل للجرعة القاتلة، ويستهدف الانسجة الدهنية، ويسبب أمراضا سرطانية، ومرض الربو، وضيق في التنفس، وحساسية في الجسم، ويصل التأثير البيئي الى المناطق الرعوية المحيطة بمنطقة التعدين مما يجعل الحيوانات أيضا عرضة للموت. قبل ثلاثة أشهر تقريبا من الآن كنت في الحبيبة مدينة أم روابة وقد علمت بوجود ماكينة تعمل على استخلاص الذهب وتقع علي بضع كيلومترات جنوبا ومن حولها مناطق زراعية ورعوية وقرى، وقد ذهبت بنفسي للتحقق من الأمر برفقة البعض فاندهشت بوجود ( الكرته ) علما بأن الماكينة قد تم ايقافها بتدخل أحد أبناء المدينة، وأن الماكينات عموما تعمل بالزئبق والسيانيد، والأخطر من ذلك وجود خفير بأسرته، ومن المعلوم ان مادة السيانيد قاتلة وسريعة التأثير، وأناشد جهات الاختصاص بالتدخل والتخلص من هذه ( الكرته ) القاتلة لحماية الأهالي والمحافظة على سلامة البيئة ولا أعتقد بأن هنالك مانعا سوى التهاون وعدم الادراك بخطورة الأمر. وفي مناطق التعدين الاهلي تفرض المحلية رسوما على المعدنين وهى المستفيد الاول ماديا حيث أن هنالك قيمة تفرض على كل جوال قبل عملية الطحن والغسيل ومن ثم نسبة مئوية معينة عند الحصول على ذهب، وبالمقابل تكون الضحايا بنسب عالية وكما تدخلت وزارة البيئة بالتعاون مع المجلس التشريعي وتم فرض قانون يحمي المياه الجوفية من تلوث الصرف الصحي عبر آبار الصرف الصحي التي تخترق الخزان السطحي فان بمقدورها التدخل لمتابعة قضية التعدين الأهلي وحماية أرواح المواطنين والمحافظة على البيئة، وايقافه فورا ومهما توافرت طرق الوقاية والحماية فمن الصعب جدا تفادي خطورة الزئبق. ومن الحلول التي يمكن أن تنهي قصة التعدين العشوائي اختراع الشاب السوداني محمد الأمين لماكينة تعمل على استخلاص الذهب بدون استخدام الزئبق أو السيانيد، وتعمل بالخواص الفيزيائية والكهربائية، وتكلفتها زهيدة مقارنة بالماكينات المستوردة، وأنها صديقة للبيئة، وذات انتاجية عالية، علما بأن هذا الشاب قد حصل على المركز الثاني في برنامج مشروعي.

خروج عائدات النفط أدت إلى انتشار التعدين التقليدي الغير قانوني وازدهاره في البلاد، خصوصا في ظل معاناة السودانيين من الظروف الاقتصادية الصعبة، ولكن الآثار السلبية الناتجة عن التعدين التقليدي باتت تشكل خطرا حقيقيا على اقتصاد الوطن وعلى صحة المواطن السوداني وبيئته ومحيطه، فقد لوحظ عجز في ميزانية الدولة لهذا العام قدر بـ 3.5 مليار دولار، مقارنة بـ 2.4 مليار دولار العام الماضي، وهذا ناتج إلى ازدياد عمليات تهريب الذهب خارج البلاد والتهرب الضريبي الذي كلف الدولة خسائر باهضة وأدى إلى تدهور الحياة المعيشية للمواطن السوداني.
واما بالنسبة للمخاطر الصحية التي تمخضت عن انتشار السموم الكيميائية المحرمة دوليا كالزئبق والسيانيد والتي تستعمل في معالجة مخلفات التعدين والتخلص منها بطرق غير قانوينة، فقد شهدت البلاد زيادة كبيرة في حالات الإصابة بسرطان الدماغ والرئة، فضلا عن انتشار أمراض خطيرة ونادرة متعلقة بالجهاز التنفسي والعصبي، كما لوحظت في البلاد زيادة مريعة في حالات الإجهاض والتشوهات الخلقية لدى الأجنة وانتشار حالات العقم لدى الرجال والنساء.
ويجدر بالذكر أن السودان من بين كبرى الدول التي تستخدم الزئبق بكثرة في التعدين الخاص، حيث يبلغ حجم استيراده لهذه المادة الخطيرة من 60 إلى 100 طن سنويًا، وتعتبر الصين وهونج كونج والاتحاد الأوروبي أكبر المصدرين لهذه المادة.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.