جريدة بريطانية : موقف دخول قوات عسكرية دولية إلى السودان..هل يتضافر الحراك الشعبي مع الجهود الدولية لوقف الحرب السودانية؟ تحليل

دخول أي قوات عسكرية دولية إلى السودان في ظل هذه الحرب ستكون جزءاً من المشكلة وليست جزءاً من الحل

لا يختلف إثنان في أن الحرب جريمة ضد الإنسانية، خصوصاً عندما يكون ضحاياها من المدنيين بمن فيهم النساء والأطفال، وتفعل أكثر من ذلك بأن تسلب الأمان وتزيد العداوات، فضلاً عن كلفتها الأخلاقية والبشرية والاجتماعية والبيئية والاقتصادية.
وصل السودان في ظل هذه الحرب بين الجيش السوداني، و”قوات الدعم السريع” إلى لحظة محورية، وفي الواقع فإن الشعوب تقف دوماً ضد الحروب، ولكن من يقرر إيقافها هي الحكومات. وعبّر رئيس الولايات المتحدة الرابع والثلاثين، دوايت أيزنهاور عن ذلك بقوله “أؤمن بأن شعوب العالم ستريد السلام إلى درجة أن الحكومات ستضطر إلى الابتعاد عن طريق الحرب وتسمح لها بالحصول عليه”.
ولطالما وقف الشعب السوداني مناهضاً للحرب في تجارب سابقة طال أمدها، فبعد الاستقلال استمرت الحرب الأهلية في جنوب السودان لأكثر من نصف قرن، وحرب دارفور مستمرة منذ عقدين من الزمان، وذلك بسبب عدم استجابة الحكومات من جهة، وبسبب تداخل دوافعها من جهة أخرى.
ونشأ الحراك الشعبي المناهض للحرب الحالية مترافقاً مع التحركات الدبلوماسية العربية بقيادة السعودية، والدولية بقيادة الولايات المتحدة، من أجل وقف إطلاق النار ونجاح مفاوضات جدة في دفع طرفي الصراع نحو الالتزام بوقف إطلاق النار، لتمكين مسار المساعدات الإنسانية من الوصول إلى المتضررين. كما شهد عدد من العواصم والمدن العالمية خروج تظاهرات حشدها سودانيون بالخارج لوقف الحرب.

استقطاب الشارع

مع كل تحرك شعبي في السودان، تقفز قوى سياسية لاستقطاب الشارع مما يؤدي إلى انقسامات عدة، ففي أعقاب ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، التي قابلتها القوى العسكرية بالعنف، نشأ حراك شعبي سلمي واسع شعاره “الدم السوداني غالي”، للتمسك بسلمية الثورة وعدم الاستجابة للاستفزازات، ولكن الثوار وقعوا في مصيدة الاستقطاب من قبل بعض القوى والأحزاب، وكان شعار “الدم قصاد الدم” سائداً قبل أن تتسع دائرة العنف وتسفر عنها أحداث فض الاعتصام في ميدان القيادة العامة للقوات المسلحة. وجرت مواجهة شرسة بين قوات عسكرية وشبه عسكرية من جهة، وثوار عزل من جهة أخرى، ولكن الطرف الثالث كان يحرض من وراء الكواليس.
وبدأت الثقة الشعبية بالأحزاب والقوى السياسية تتلاشى لأن انشقاق صفوفهم وخلافاتهم المستمرة هي التي وفرت بيئة مناسبة لاشتعال الحرب أو على أقل تقدير كانت تتفرج على الاستعداد لها من دون أن تحرك ساكناً أو تقدم نصحاً. وعن مدى نجاح الحراك الشعبي في تحقيق الهدف الأسمى وهو وقف الحرب، فإن هناك من يرى أنه يجب أن يكون الحراك بلا واجهة سياسية، وإنما تنسيقية فقط، ليس لديه تاريخ شراكة إيجابية أو سلبية مع طرفي النزاع لتسهيل التواصل معهما من دون خلفية سياسية أو ظن مسبق في أهدافها، خصوصاً في ظل أجواء عدم الثقة.
كما يتيح تجرد الحراك الشعبي من أي صبغة سياسية، سلامة التواصل الإقليمي والدولي وحشد عالمي مناهض للحرب، ويساعد في تمرير المساعدات الإنسانية للمتأثرين بالحرب، وأن يكون صوتاً داعياً إلى السلام وإعادة الإعمار من دون أن يكون لأفراده أجندة سياسية أخرى. في المقابل، هناك مَن يشير إلى أن هذا الحراك ربما تتلقفه القوى السياسية المكونة من الأحزاب والتجمعات المهنية والنقابية، وهي الموقعة على “الاتفاق الإطاري” المتسبب بشكل ما بإشعال الحرب.
وترتب قوى سياسية أخرى الآن أوراقها لوضع تسميات مختلفة لأجسام في طور التشكل، لن يكون وقف الحرب هو هدفها الأوحد وإنما استئناف العملية السياسية، وسيكون الأمر الواقع هو تعامل المجتمع الدولي مع كل منها. ومع أن اختلاف أو تباين الآراء والتوجهات الفكرية أو السياسية أو الطائفية، لا تمنع التوحد خلف فكرة “مناهضة الحرب”، غير أنه يتوقع ظهور مجموعات تتبنى هذا الشعار لأغراض أخرى أولها ضمان استمرارها في الواجهة.
ولذلك يرى مؤيدو حملة الحراك الشعبي المناهض للحرب، أن تكون الحركة اجتماعية خالية من أي غطاء سياسي، في دعوتها إلى السلم والضغط على طرفي النزاع لوقف الاقتتال وكل أشكال العنف، وبسط الأمن، ومعارضة كل استخدام للقوة العسكرية خلال الخلافات.

استراتيجية متماسكة

وفي حين توجد خلافات بين شقي المكون العسكري، “الجيش” و”الدعم السريع”، فإن الأمر يتعلق بالإجابة عن سؤال أولي عن أهداف الحرب وتوقيتها، ومن أول مَن أطلق النار إيذاناً ببدايتها، نجد أن بعض القوى السياسية لعبت دوراً حاسماً في دعمها، وهذا يعني أن من يقف الآن لمعارضتها بتجرد بوصفها عملاً غير أخلاقي، يختلف عمن يتخذ الشعار مطية لتحقيق طموحاته. الإطار الاجتماعي الوحيد القابل لتطبيق شعار معارضة الحرب هو الشعب السوداني الذي استُخدم وقوداً لها وهو الذي يكتوي بمجابهة ظروف صحية واقتصادية ومعيشية أسوأ مما مر به منذ الاستقلال.
ويتطلب وقف الحرب بناء حركة اجتماعية ودبلوماسية تستهدف جذورها، بنداءات المواطنين والمجتمع الدولي من أجل وضع هدنة طويلة أو وقف الحرب كلياً. وهنا لا يتعلق الأمر بمناشدة طرفي النزاع أو ممثليهم السياسيين، إذا كان البديل عن رفضهم لخيار وقف الحرب هو التدمير البطيء عبر عملية سياسية فاشلة أخرى. وتبدو أول استراتيجية متماسكة في هذا الاتجاه هي “مفاوضات جدة” لأنها دبلوماسية تتفق مع مبادرات أخرى ومع الحراك الشعبي، بطريقة من شأنها كسر وتيرة الحرب التي أخذت تدور في حلقة الهدن العديدة المخترقة.
وكان واضحاً منذ بداية الحرب أن التقدم نحو تسوية تفاوضية ممكن فقط إذا فهم الفريقان المتنازعان أن عدم التوصل إلى حل سيكلف البلد ثمناً باهظاً. وترك بدء مفاوضات جادة من خلال إقناع طرفي الصراع بالجلوس معاً عبر ممثليهما، أثراً باعتباره الرافعة الحقيقية الوحيدة القائلة بأن هذا الحل هو في مصلحة الجميع وفي مقدمتهم السودان.
ومع ذلك، يتوقع أن تمر المفاوضات بمنعطفات تقاوم الإجراءات القوية المطلوبة منهما لتطبيق ثلاثة بنود هي، وقف إطلاق النار، ووقف العدائيات، وتأمين ممرات لإيصال المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها، خصوصاً المساعدات الحالية المقدرة بحوالى 100 مليون دولار التي قدمتها السعودية، إضافة إلى حملة المساعدات الشعبية السعودية، وما يتوقع أن يتبعها من مساعدات دولية.

معادلة المخاطر

وسعياً إلى تضييق نقاط الخلاف بين وفدي الجيش والدعم السريع في جدة، تبدو الطريقة الوحيدة للتغلب على مقاومة الطرفين لأي حلول هي معادلة المخاطر بين الاستمرار في الحرب والحسم العسكري، إذ إن كلا الحلَين ينسفان الوصول إلى وقف لإطلاق النار ووقف العدائيات. ويخشى المجتمع الدولي بسبب عدم إحراز أي تقدم أن يستهلك الطرفان مدة المفاوضات لكسب الوقت لإعادة تموضعهما العسكري.
وعقدت بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة “إيغاد” في أديس أبابا قبل أيام لقاءً لمعالجة الأزمة السودانية، والتأكيد على إنهاء الصراع المسلح، وفتح ممرات إنسانية آمنة ولكن لم تلق الاستجابة المطلوبة، مما يؤكد أنه لا بد أن تكون هناك هدنة يتم الالتزام بها حتى تضمن ذلك. وفي الوقت ذاته تؤكد الولايات المتحدة استمرارها في المحادثات مع الطرفين لحثهما على وقف الاقتتال.
كل ذلك ولم يظهر إلى الآن وجه الرقابة الدولية التي ربما تلجأ إلى التأكد من اتهامات الطرفين لبعضهما بارتكاب الانتهاكات التي تقع نتائجها السلبية على المدنيين والتي قدمها وفد الجيش إلى فريق الوساطة في مفاوضات جدة بالوثائق والصور لعشرات المستشفيات التي حولتها “قوات الدعم السريع” إلى ثكنات عسكرية، بالإضافة إلى عمليات النهب من البنوك والاستيلاء على منازل المواطنين والمرافق العامة وغيرها، بينما قدم وفد “الدعم السريع” قائمةً لفريق الوساطة بما سماها “انتهاكات الجيش” بقصف مواقع وأهداف مدنية. وربما لم يحن الوقت الذي يمكن أن تدخل فيه إلى السودان قوات الأمم المتحدة أو قوات مختلطة بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي مثلما حدث في دول أفريقية أخرى، وفي السودان نفسه في وقت سابق، ولذلك يحرص الوسطاء الإقليميون بأن يكون الحل سودانياً، إذ إن دخول أي قوات عسكرية دولية في ظل هذه الحرب، سيكون جزءاً من المشكلة وليست جزءاً من الحل.

تحولات حاسمة

ربما من المفيد في هذه الحالة أن يضع الحراك الشعبي السوداني هذه المطالب أمام الرأي العام الدولي، بأن هناك خطوات مقبلة لا يمكن إغفالها، وهي أن الممارسات الحالية ضد المدنيين تدخل في إطار جرائم الحرب، وأن لا أحد يمكنه الإفلات من العقاب، وتشكيل ضغط جاد على قوات الجيش وقوات الدعم السريع باعتبارهما شريكين في الانتهاكات التي تُرتكب في السودان. ومع هذا الوضع قد لا يكون ملائماً الضغط في سبيل تحقيق انتقال سياسي يتجاوز الوضع الراهن في ظل عدم الأمن والسلام.
وبالنظر إلى موقف طرفي النزاع الحالي، فيبدو أنهما لا يجمعان على أي شيء بخلاف الاستمرار في الحرب وصولاً إلى الحسم العسكري.
ومع ذلك، إن لم تكن هناك تحولات حاسمة في ساحة المعركة خلال هذا الشهر، فمن المرجح أن يزداد الضغط من قبل الحكومات الغربية، ذلك لأن عودة العمليات العسكرية العشوائية بصورتها السابقة تعزز الثقة الشعبية بضرورة إزاحة طرفي النزاع من المشهد السياسي برمته. وربما يكون هذا هو المطلب المقبل للحراك الشعبي، ستتبلور بعده ثلاثة سيناريوهات، الأول، دخول قوات الأمم المتحدة للحماية بعد أن تُستنفذ وسائل الوصول إلى اتفاق. والثاني، إذا تم إبرام تسوية بين طرفي النزاع، لن تتمكن الأجهزة التشريعية في السودان أن تشمل جميع قضايا العدالة التي يطالب بها المدنيون، وستفتح ملفات أخرى كادت أن تضيع بين الأحداث المروعة، منها أحداث فض الاعتصام، وستكون هذه المرة على مرأى من المجتمع الدولي الذي سيسمع ويشاهد ويقيم. والسيناريو الثالث، ربما يشهد تأطيراً جديداً للحرب، فبينما يرى قائد قوات “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو حميدتي، بأنها حرب ضد “أعضاء النظام السابق” الذين اعتبر أنهم مؤثرون على الجيش، يرى قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان أنها حرب وجودية للحفاظ على وحدة السودان وحمايته ضد من وصفهم بالمتمردين، ومنعاً لأي تمرد آخر ربما يطرق الأبواب قريباً

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.