دروس تَعلّمتها إيران من حرب العراق لا زالت تستفيد منها حتى اليوم
شهدت الحرب بين إيران والعراق التي استمرت لثماني سنوات “أخطاء مروعة” من كلا الجانبين، ومع ذلك، تعلمت إيران الكثير عن كيفية محاربة خصمٍ أقوى منها، إذ تركت الحرب دروساً، تحفظها إيران عن ظهر قلب، كما تقول مجلة The National Interest الأمريكية.
ماذا تعلمت إيران من الحرب مع العراق؟
ومع أن الصراع الإيراني العراقي، لا يزال حتى يومنا هذا، يشغل الكثير من النخبة الحاكمة في إيران، فإن الحرب الإيرانية العراقية لا تحظى باهتمام كبير في الولايات المتحدة. على مر السنين، شهدنا بانتظام أحداثاً تحيي ذكرى انقلاب 19 أغسطس/آب 1953 ضد رئيس الوزراء محمد مصدق. ومع ذلك، فإن تاريخ 22 سبتمبر/أيلول 1980، حينما غزا العراق إبان حكم صدام حسين إيران، لا يشد انتباه مراقبي إيران، ولا حتى خبراء السياسة الخارجية العامة في واشنطن.
وهذا خطأ كبير كما تقول المجلة الأمريكية التي تعنى بالشؤون الاستراتيجية والعسكرية، فلم يُشكل أي حدث آخر أيديولوجية إيران الثورية وسياستها ووجهات نظرها المجتمعية والأمنية مثلما فعلت الحرب الإيرانية العراقية.
أيديولوجية إيران الثورية تسير على قدم وساق
كانت الجمهورية الإسلامية الوليدة، بقيادة مؤسسها آية الله روح الله الخميني، مقتنعة بأنها تخوض حرباً مقدسة. بل إنها تصفها حتى يومنا هذا بـ”الدفاع المقدس”. بالنسبة لقادة إيران، ساعدت الأهمية الأيديولوجية للحرب على طمس الحدود الوطنية، واختزال العالم في جزءٍ خيّر، والآخر شرير.
ومثلما تبنت إيران خطابات معادية لأمريكا للإطاحة بالشاه، لجأت إلى الشعارات نفسها لمهاجمة صدام. في يوم الغزو العراقي، أعلن الخميني أن “صدام حسين هو الذي هاجمنا نيابة عن أمريكا، وإذا رددنا عليه، فلن يكون لذلك أي علاقة بالأمة العراقية، التي لا تزال شقيقتنا”. هذان البعدان، الدعم الأمريكي لصدام والإيمان (المضلل استراتيجياً) بالدعم الشعبي العراقي، كانا من السمات المميزة للحرب الإيرانية العراقية.
أيد آية الله حسين علي منتظري -الذي أصبح الآن رمزاً للحركة الخضراء- بحماس قرار 1982 المثير للجدل بغزو العراق، على أمل إحداث “انقلاب” هناك. والمثير للاهتمام أن الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني لا يزال يؤكد أن “شعب العراق دعمنا أثناء الحرب” أكثر من قادته البعثيين. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن ما ردده الخميني هو الخطاب نفسه الذي يتبناه المرشد الأعلى الحالي لإيران، آية الله علي خامنئي، الذي يدعي أن الولايات المتحدة “أعطت صدام الضوء الأخضر” لمهاجمة إيران.
وحتى الآن، بالنسبة للقيادة الإيرانية، ما تزال المُثُل التي آمن بها الخميني حيةً. إذ صرح اللواء محمد علي عزيز جعفري، قائد الحرس الثوري الإيراني، في خطاب ألقاه مؤخراً، أن مهمة فيلق القدس هي “مساعدة الحركات الإسلامية على إشعال ثورة إسلامية، ومساعدة المقاومين المضطهدين في أنحاء العالم”. باختصار، مهدت الحرب الإيرانية العراقية الطريق لعولمة الثورة الإيرانية، التي كان لا مفر من نشرها والدفاع عنها إلا بالقنابل والرصاص.
لا يزال الإرث الاجتماعي للحرب ذا أهمية كبيرة لدى إيران
غالباً ما ينظر المسؤولون الإيرانيون إلى فترة الحرب بحنين إلى الماضي، مستخدمين الحرب مرجعاً مهماً في محادثاتهم. وهذا مفهوم من منظور نظامي، بالأخص لأن آية الله الخميني ما يزال حياً وقادراً على توجيه أمته، طالباً منها تحمل المصاعب لمصلحة الثورة.
في الوقت نفسه، وبينما اتحدت الجمهورية الإسلامية ضد “العدو الخارجي”، فقد استخدمت الحرب أيضاً للقضاء على المعارضين السياسيين في الداخل. إلا أنه بإلقاء نظرة فاحصة على هذه الفترة، يمكننا رؤية معاناة إنسانية هائلة، إذ أضرت هذه الحرب بإيران نفسها، وأرغمت سكانها على تحمُّل تضحيات هائلة. اليوم، يتجلى وطأة الألم المصاحب لها في مقابر مثل مقبرة بهشت زهرا (جنة الزهراء) المترامية الأطراف بالقرب من طهران. ولا تحيي الجداريات والطوابع المتهالكة ذكرى هذه التضحيات فحسب، بل يصر المسؤولون الإيرانيون على إيقاظها باستمرار بما ينشرونه من تغريدات بهدف إعادة ترسيخ “ثقافة التضحية والاستشهاد” في مجتمع قد تخطاها.
شكلت فترة ما بعد الحرب تحدياً للسردية التي تبنتها الحكومة الإيرانية. القيم الثورية التي وضعت الجمهورية الإسلامية على خلاف مع كل من الشرق والغرب خلال نهاية الحرب الباردة، ما تزال قائمة. وفي مواجهة التغيرات الجيلية، يواصل القادة الإيرانيون، مثل رئيس أركان القوات المسلحة اللواء سيد حسن فيروز آبادي، الثناء على الحرب، مشيراً إلى أن “الدفاع المقدس، مثله مثل الثورة الإسلامية، يجب أن يظل حياً إلى الأبد”.
حتى خامنئي أدلى بدلوه في هذا أيضاً، بقوله: “مع أن التضحيات المادية والروحية للحرب التي فرضت علينا كانت ثمينة وغالية، فقد كانت إنجازات الأمة الإيرانية في ثماني سنوات من الدفاع المقدس، مقارنةً بتضحياتها، عظيمة جداً”. وتشمل هذه الإنجازات تحويل الحرب إلى “ثقافة”، وإلى شيء يمكن عيشه ونشره بين أفراد الأمة بحجة “مكافحة العقوبات” أو محاربة تهديدات مثل “الغزو الثقافي”.
سياسة إيران الأمنية: مقدسة ودفاعية
بالنسبة لإيران، كانت الحرب العراقية الإيرانية تعج بالدروس العسكرية القاسية. سلط الصراع الضوء على العديد من أوجه القصور العسكري ومشاكل في القيادة والسيطرة بإيران، فيما تنبأ بتوتر مدني عسكري غير محلول. أثناء الحرب، جسدت الهجمات الإيرانية على التحصينات العراقية بوضوح ما يمكن أن تحدثه الشجاعة والحماسة في التفوق التكنولوجي.
إلا أن النجاحات التكتيكية المحدودة لإيران، مثل الاستيلاء على شبه جزيرة الفاو، لم تدم طويلاً. فسرعان ما وقفت إيران عاجزة عن مواجهة الهجمات الكيميائية العراقية، وطائرات سوبر إتوندار النفاثة التي كانت مجهزة بقذائف من طراز إكسوست، وسلاح البحرية الأمريكية في الخليج العربي.
وعلى الرغم من هذه النكسات المتوالية التي مرت بها إيران في ساحة المعركة، فما تزال تتباهى بسجلها الحربي واصفة إياه بأنه “قد روَّع أعداءها، بل ردعهم، وسلبهم القدرة على شن غزو أو هجوم على الوطن الإيراني”. وأفضل مثال على هذا النمط من التفكير هو ما قاله حسن رحيم بور أزغدي من المجلس الأعلى للثورة الثقافية: “لولا هذه السنوات الثماني من الحرب، لفُرضت علينا عشر حروب. فهذه الحروب نفسها، التي شُنِّت في لبنان وسوريا والعراق، كانوا سيشعلونها في إيران… الدفاع المقدس هو الذي جعل العدو لا يجرؤ على مهاجمتنا”.
ومع أن هذا يبدو مبالغاً فيه بالنظر إلى مؤشرات إيران المتأرجحة للكفاءة العسكرية أثناء الحرب، فما تزال الجمهورية الإسلامية ترى أن فوائد الحرب تؤتي ثمارها حتى اليوم.
من منظور استراتيجي، تبالغ إيران في تقدير الحرب الإيرانية العراقية، حتى إنهم يشبهونها بـ”الحرب العالمية الثالثة”. كما ركزت إيران بهوس بالغ على ما تعلمته من الحرب، مشيدة بمفهومات مثل “الاكتفاء الذاتي” بوصفه “إنجازاً عظيماً” للحرب. وفي الوقت المناسب، بدأت إيران الاستثمار في مجموعة من القدرات العسكرية غير التقليدية وأدوات حروب الجيل الرابع. بحسب أرقام اللجنة الخاصة للأمم المتحدة للرصد والتفتيش، أطلق صدام حسين ما يقرب من 63% من صواريخه على إيران خلال الحرب، ما دفعها إلى إنشاء قيادة صاروخية خاصة بها. وحتى يومنا هذا، تواصل وسائل الإعلام الإشادة بضابط الحرس الثوري الإيراني الذي اهتدى إلى تطوير صواريخ بقدرات نارية معززة بدلاً من إطلاقها كلها على العراق، التي أصبحت أساس القوات الصاروخية الإيرانية.
بصفةٍ عامة، تختلط الجداول الزمنية فيما يتعلق بتطوير إيران للصواريخ النووية والباليستية، إذ غالباً ما تتداخل خلال فترة الحرب وفترة إعادة الإعمار التي تلتها مباشرة. رسخت تجارب إيران في عقول الخبراء الاستراتيجيين الإيرانيين الفكرة القائلة بأن العالم غير عادل وفوضوي في نفس الوقت. ويمكننا فهم المسيرة النووية الإيرانية إذا ربطناها بتعليقات رفسنجاني، الذي قال في عام 1989 إن “القوانين الدولية ليست سوى حبر على ورق”.
جميع جوانب السلوك الإيراني الذي يثير قلق الولايات المتحدة إما تبرره الحرب أو متجذر فيها. ويتجلى ذلك في الهجمات الإيرانية في لبنان، وازدرائها للسعودية، وإطلاقها للقوارب السريعة في الخليج العربي، ودعم المقاومة ضد إسرائيل. اليوم، تدعم إيران نظام الأسد في سوريا، مثلما دعم والد بشار، حافظ الأسد، إيران أثناء الحرب. علاوة على ذلك، علمت الحرب الجمهورية الإسلامية أن من المهم معرفة من يحكم بغداد بالضبط، ما يفسر تدخل إيران في العراق فيما بعد. وعلى الرغم من هذا المنحنى الحاد للتعلم، يواصل المسؤولون الإيرانيون النظر إلى الحرب باعتزاز، مرددين أن “ثماني سنوات من الدفاع المقدس جعلت الإيرانيين متمرسين في الحرب”. وهم محقون في ذلك، لأن تجارب الحرب زودت إيران بمخططها الأمني الحالي.
ترسيخ مبادئ الثورة الإيرانية من جديد
خاطرت الجمهورية الإسلامية بكل ما تملك في الحرب الإيرانية العراقية. وينبع هوس إيران الدائم بـ”المقاومة” والتضحية جزئياً من هذا الحدث الكارثي. لا تزال الحرب تجربة خالدة في إيران، وهي أصل العديد من الخلافات السياسية الداخلية، وسبب دراسة الحالة الدولية لإيران، المترددة بين شن حربٍ مع الجمهورية الإسلامية أو صنع السلام معها.
ونظراً لأن جيل ما بعد الحرب لم يصل إلى السلطة بعد، فإن قادة إيران اليوم هم في الغالب نفس الرجال الذين قاتلوا في ذلك الصراع أو أشرفوا عليه. لقد كان نظاماً قاتلوا من أجله في الثمانينيات، جنباً إلى جنب مع الكثير ممن قتلوا من زملائهم، على الرغم من الانتكاسات الكثيرة المحتملة. بالنسبة للكثيرين، جسدت الحرب “النضال المستمر للحق ضد الباطل”. وبالنسبة لهؤلاء الجنود ورجال الدولة، لم تكن الحرب تمهيداً للتطبيع، بل كانت “اختباراً إلهياً لاستمرار الثورة الإسلامية”، بحسب تعبيرهم.