هل تخلت مصر عن الخيار العسكري بالنسبة لملئ سد النهضة؟
جاء تصريح وزير الخارجية المصري بأن “الملء الثاني لسد النهضة لن يكون مؤثراً على مصالح مصر وأنها تستطيع التعامل معه من خلال الإجراءات المُحكمة في إدارة الموارد المائية”، ليثير صدمة بين المصريين، ويثير تساؤلات حول هل فات أوان الحل العسكري لأزمة سد النهضة بالنسبة للقاهرة خاصة إذا تم الملء الثاني للسد؟
فبينما كان المصريون على تنوع انتماءاتهم مرتاحين لموقف بلادهم القوي نسبياً من العدوان الإسرائيلي على القدس وغزة، مقارنة بحرب 2014 ويتناقشون حول قرار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تخصيص 500 مليون دولار لإعمار قطاع غزة، ويتحدثون عن عودة الدور القيادي لبلادهم في المنطقة فوجئوا بتصريح وزير خارجية بلادهم سامح شكري الصادم هذا.
وقال شكري إنه لابد أن نطمئن جميعاً لأن لنا رصيداً من الأمان المتوفر في خزان السد العالي، وأضاف خلال لقاء لبرنامج “بالورقة والقلم” الذي يقدمه الإعلامي نشأت الديهي عبر فضائية “ten”، مساء الثلاثاء 18 مايو/أيار 2021 أن مصر بانتظار دعوة من رئاسة الاتحاد الإفريقي لعقد مكتب الاتحاد بحضور الأطراف لاتخاذ قرار يؤدي إلى إعطاء فرصة أخرى للعملية التفاوضية بإطار جديد بمشاركة أكثر فاعلية من جانب المراقبين الدوليين، بشكل يساهم في تقريب وجهات النظر لوضع الحلول التي تيسر من التوصل إلى اتفاق.
الحلول كلها داخلية
مما أعطى مؤشراً على وجود توجه مصري للتعامل مع الملء الثاني لسد النهضة كأمر واقع تصريح تالٍ أدلى به وزير الري والموارد المائية المصري محمد عبدالعاطي، قال فيه إن هناك 3 سيناريوهات محتملة لمصر خلال الفترة المقبلة في حالة حدوث الملء الثاني، حسبما ورد في تقرير لصحيفة الشروق المصرية.
إذ قال عبدالعاطي، في مداخلة هاتفية على قناة تليفزيونية، إن السيناريو الأول متمثل في حدوث فيضان عالٍ مع وجود مناسيب آمنة في بحيرة السد العالي كافية لاستيعاب صدمة الملء الثاني لسد النهضة، والسيناريو الثاني حدوث فيضان متوسط وسيؤدي لانتقاص كمية من المياه الواردة من النيل الأزرق التي ستخزنها إثيوبيا للسد.
أما السيناريو الأخير والأسوأ الذي قد يحدث جراء الملء الثاني لسد النهضة فهو تزامن حدوث الجفاف مع ملء سد النهضة، بحسب الوزير.
أي نحن أمام سيناريو مقبول وغير مرجح وهو حدوث فيضان كبير، وسيناريو سلبي وهو الأرجح ويتمثل في حدوث فيضان متوسط للنيل، وسيناريو شديد السلبية ولكن احتمال حدوثه ليس كبيراً، وهو حدوث جفاف.
اللافت أن الوزير المسؤول عن الملف لم يقلل مثل سامح شكري من آثار الملء الثاني لسد النهضة، إذ قال إن ملء سد النهضة يعتبر صدمة؛ لأنه سينتقص من كمية المياه التي تأتي إلى مصر، خاصة إذا تزامن ذلك مع حدوث جفاف.
ولفت إلى اتخاذ مجلس الوزراء لأكثر من إجراء لمواجهة النقص في المياه، كتقليل مساحات الأراضي التي تتم زراعتها بالمحاصيل الشرهة للمياه، إضافة إلى إقامة محطات لمعالجة الصرف الزراعي ومحطات خفض وسدود حصاد أمطار، بجانب مشروع تبطين الترع.
اللافت أن وزير الري المصري ركز على إبراز الآثار السلبية التي تعرض لها السودان بسبب التصرفات الأحادية لإثيوبيا خلال الملء الأول وما بعده، مضيفاً أن إثيوبيا تعتزم تخزين ما يقرب من 13.5 مليار متر مكعب مياه خلال الملء الثاني.
وهو تلميح إلى أن السودان بالأساس هو المتضرر الأول من الملء الثاني لسد النهضة، وهو أمر حقيقي، ولكن الإشارة لذلك في هذا السياق، يهدد بخلق تباين في مواقف البلدين من الأزمة في وقت تقاربت مواقفهما مؤخراً بشكل غير مسبوق، مما سمح بخلق حالة من الضغط على إثيوبيا لإيجاد حل.
ماذا سيحدث للسودان ومصر إذا تم تدمير سد النهضة بعد الملء الثاني؟
في حال تعرُّض السد لضربة جوية أدت إلى إضعافه ثم انهياره فإن هذا سيكون له آثار كارثية على السودان (مشابهة للآثار المحتملة للانهيار جراء خطأ التصميم)، وقد يحتمل أن تمتد الآثار إلى صعيد مصر، وقد يكون لها تأثير على السد العالي.
بطبيعة الحال لا يمكن تقديم تقدير دقيق لحجم الفيضانات الناتجة عن مثل هذا الانهيار المحتمل إذا تم الملء الثاني، لسد النهضة علماً أن السد سيحتجز بعد الملء الثاني نحو 18 مليار متر مكعب من المياه.
يقول البعض إنه في حال انهيار السد، لن تندفع كل هذه المياه للسودان، بل جزء منها فقط، بينما سيُحتجز جزء كبير خلف ما سيتبقى من جسم السد، ولكن هذا الاحتمال لن يغير من الواقع شيئاً، إننا أمام كارثة حتى لو أن هناك خلافاً في التقديرات حول حجمها.
ويجب ملاحظة أن النيل الأزرق الذي يحجز سد النهضة مياهه، هو نهر شبه موسمي، لأن الأمطار في إثيوبيا تتساقط بالأساس في الصيف، وبالتالي فإن أي عملية لقصفه وتدميره يفترض أن تتم في بداية الصيف قبل امتلاء النهر خلف السد بالمياه، حتى لا تسبب الفيضانات في تخريب السودان وصعيد مصر، أما بعد بدء الملء الثاني لسد النهضة (وهو الملء الأساسي)، فإن المياه ستصبح محتجزة خلف السد طوال العام وليس الصيف فقط، وقد يعني هذا أن الملء الثاني لسد النهضة هو بمثابة نقطة اللاعودة بالنسبة لخيار قصف السد، وأن هذا الخيار قد يصبح شبه مستحيل بعدها.
وسبق أن قال الإعلامي والأكاديمي المقرب للسلطة في مصر معتز عبدالفتاح إن قصف سد النهضة بهدف تدميره يمكن أن يؤدي إلى إطلاق ما وصفه بـ”تسونامي نهري” جراء انطلاق المياه في موجة فيضان مدمرة يصل ارتفاعها إلى حوالي 25 متراً، وهذه الموجة العالية ستهدد السودان وقد تطيح بسد الروصيرص السوداني، وستصل المياه إلى مصر خلال 17 يوماً بعد أن تكون دمرت شمالي السودان، وقد تنتقم إثيوبيا من السودان ومصر، حسب قوله.
والسيناريو الآخر، بحسب معتز، هو “الضرب الجزئي للسد”؛ حيث تقوم الطائرات بضربة محدودة في جسم السد لتُحدث “ثقب” يتدفق منه الماء، وبالتالي تخسر إثيوبيا ولا تضار مصر والسودان، وسيكون حافز أديس أبابا –للانتقام الشامل ضد سد الروصيرص السوداني والسد العالي أو غزو السودان- أضعف في هذه الحالة، حسب قوله.
ولكن هناك احتمال أنه في حال كان هدف الغارة الجوية المفترضة مجرد تعطيل السد أو إحداث ثقب به، دون تدميره، فإن هذا لن يكون له فاعلية؛ لأن إثيوبيا سوف تواصل حجز المياه وتستطيع ترميم وإصلاح السد.
وحتى في حال قيام مصر والسودان بضغوط عسكرية أو أمنية أو استخباراتية بعيداً عن ضرب السد نفسه، فإن إثيوبيا ستصبح بعد الملء الثاني في وضع أقوى وقادرة على الرد على الدولتين عبر التحكم في كمية المياه التي سوف تصرفها عبر السد، والتي لن تكون في الغالب حسب احتياجات أديس أبابا المائية، بل حسب أغراضها السياسية المحلية والخارجية، والتي يبدو أنها بلا حدود حتى الآن.
فمن الواضح أن أزمة سد النهضة والنزاع مع مصر والسودان أداة مفضلة في يد رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد لتوحيد شعبه المنقسم، وضرب المعارضة، وتعزيز حكمه الاستبدادي، ومع تزايد الاضطرابات في البلاد (خاصة بعد انكشاف فظائع حرب تيغراي)، وتلويحه بتأجيل الانتخابات، وبعد الملء الثاني لسد النهضة فإنه سيصبح في وضع أقوى للتلاعب بورقة السد لإظهار قوته أمام شعبه في مواجهة مصر والسودان.