سياسات داخلية وخارجية وتسويات
اثنا عشر شهراً وعشرة أيام بالتمام والكمال، انقضت منذ ان أعلن الفريق البرهان حل حكومة حمدوك وتجميد لجنة التفكيك بالاضافة لعدد من مواد الوثيقة الدستورية التي كانت أساس الشراكة الأولى، ووقعت بعد مخاض عسير شهده كل العالم. مرت هذه الشهور والأيام سريعاً، قبل ان تتمكن القيادة العسكرية من (تشكيل الحكومة)، وطيلة هذه الفترة اكتفى المكون العسكري بحكومة مكلفة من المديرين العامين.
وقطع العالم الغربي مساعداته وأوقف مسار اعفاء الديون، وسار رجلاً لرجل مع قوى التغيير المجلس المركزي في توصيفها لأحداث (25 أكتوبر) بأنها (انقلاب).. لم يصمد الغرب كثيراً فتفاعل مع المتغيرات.. استقبل البرهان في لندن ونيويورك، ثم أخيراً في الجزائر، وربما غداً في شرم الشيخ حيث قمة المناخ.. واسرعت واشنطون لتسمية سفيرها بالخرطوم، ثم تشكلت (الرباعية) لتسهيل وبحث أزمة السودان.. في هذه الأجواء المتسارعة كان الخاسر الأول هو الشعب السوداني الذي حقق ثورة وصفت بأنها الأعظم بين ثوراته، ورفع فيها شعارات كبيرة، لكنها من واقع الممارسة صارت (أصغر) مما يتوقعه أصغر شاب في موكب ثوري.
في هذه المساحة نحاول أن نقرأ ما وراء الحدث في ظل وجود أحداث متشابكة ومتسارعة لنتبين اتجاهات وسيناريوهات الحلول.. حيث يعتبر البعض أن التكهن بالسياسة السودانية أقرب الى (التنجيم) لأنه يتم في حالة شح المعلومات أو انعدامها.
تراجع التأييد!
توزعت الساحة الى أربع مجموعات، ولكل مجموعة رؤيتها للحل ولا تقبل أن تُحذف منها (شولة واحدة).. مع الرفض (المطلق) لأي طرح خلاف رؤيتها، حتى ولو جاء منزها من (العيوب).
مجموعتان في السلطة القائمة وأخريان في المعارضة، مجموعة السلطة فيها العسكريون بالاضافة لموقعي اتفاق سلام جوبا (الجبهة الثورية/ والحركات)، المجموعتان احداهما نفذت اجراءات اكتوبر، والأخرى بصمت عليها وأيدتها.. وصارتا في ملعب السياسة تحتفظان بمكان القلب من الجسد، الكل يدور في فلكهما كمركز الحدث، وما سواهما ردود للفعل.
قاد الفريق أول البرهان هذه المجموعة، وأظهر صبراً وجلداً شديداً، و(طولة بال) أفقدته رصيداً كبيراً في الشارع السوداني، بدأ متنامياً في بدايات التغيير، وسرعان ما تراجع مع مرور الأيام، لاعتقاد الشارع أن القيادة العسكرية لم تكن بحجم التغيير الذي أعلنته.. لكن البعض يرى أن سياسة (النفس الطويل) وح مقصودة لذاتها وتكتيكاً من الجنرالات الخمسة لاضعاف خصوم السياسة، وبالمقابل فقد العسكريون كثيراً من (تأييد البدايات)، وكان الوضع الاقتصادي للمواطن هو السبب الرئيس في تراجع التأييد الشعبي، خاصة أن السلطة القائمة لم تعر هذا الجانب أية التفاتة، بيد أن كثيرين يعتبرون سياسات وزارة المالية سبباً في الأزمات واستفحالها.
مبادرات
تكالب المجتمع الدولي على (قصعة) السودان عمق حدة الخلافات، وبدلا من ان يكون (مسهلاً) للحوار، أصبح هو نفسه جزءاً من الأزمة.. بسبب الأطماع المعروفة تجاه موارد البلاد، بالاضافة للدعم اللامحدود الذي وجده المجتمع الدولي من مجموعة الحرية والتغيير، وظهرت (أوصاف ومفردات جديدة) لم تكن مستخدمة في الشأن السوداني، مثل مفردتي (عميل وعملاء).. لكثرة الأفعال والوقائع التي يعلمها الناس، وللمساحة الكبيرة التي وجدها المبعوثون الدوليون والسفراء الغربيون، حتى ان البعض أقسم أن (يلف السفارات سفارة سفارة).
ما كان لهذا الوضع (الشائه) ان يقوم لولا التشجيع الذي وجدوه، و(طأطأة الرؤوس) التي لم تنظر قط ابعد من وقع حذائها.
هناك مبادرة البعثة الأممية ودورها كمسهل في تحسين فرص الانتقال ــ كما تقول دائماً ــ وللحق أن هذه البعثة لم تلعب دوراً واحداً مما أعلنته.. ولم تسهل الحوار، واتهمتها اوساط سياسية بعدم الحياد و(تسويق) ما تريده هي لا ما تريده الساحة، وظهر (انحيازها) بشكل أكثر وضوحاً في دورها الداخلي والخارجي لاسناد وثيقة المحامين ــ الوثيقة التي قال السفير الأمريكي إن من لا يوقع بالموافقة عليها سيصيبه (قانون العزل)، وهو منعه من الممارسة السياسية مستقبلاً.
الإسلاميون
أعلن الاسلاميون رفضهم الجازم لدستور المحامين، وخرجوا في مسيرة 29 أكتوبر كرد على خطوات التسوية ورفض وثيقة المحامين والتدخلات الأجنبية.
كلما ثار الجدل عن (عودة الاسلاميين) برزت المخاوف، عدد من قيادات الاسلاميين أكدوا عدم مشاركتهم في الفترة الانتقالية، ولن يعودوا لسدة الحكم الا عبر الانتخابات.. في وقت تتشدد فيه جهات أخرى على (حظرهم)، بالاضافة لابعاد فكرة الانتخابات نهائياً في الوقت الراهن ــ لأنها ستأتي بهم ــ على حد زعم السفير الأمريكي.. فالانتخابات عمل غير ديمقراطي اذا جاءت بـ (الكيزان) من جديد.
شكل الاسلاميون صوتاً جديداً في الشارع بخروجهم في مسيرة (الكرامة).. أياً كانت النظرة اليهم، فهم يعبرون عن رفضهم بالخروج الى الشارع، وهذا سلوك ــ ربما ــ شكل بوادر خوف لأعدائهم ــ لأنهم يستخدمون ذات السلاح ــ سواء كانوا محليين أو مجموعات خارجية.. سلوك مجموعات اليسار طيلة سنوات ما بعد الثورة، ربما أسهم الى حد في تكتل (الاسلاميين) الأخير.. وربما قاد مستقبلاً الى (توحد كامل) لهم، وقد كانوا في عداء محكم الى وقت قريب.
صفقة أم تسوية؟
كل ما صدر عن موضوع التسوية ــ التي أشارت مصادر بأنها أوشكت على خطوتها الأخيرة ــ لم يصدر عن جانب رسمي، فالتسريبات خرجت من قوى الحرية والتغيير ومن المبعوث الأممي.. الرسائل التي اخرجها الجانب العسكري كانت (تطمينية).. لجهة أنه لا توجد تسوية (ثنائية)، وما يقال لا يخرج عن دائرة (التكتيك).. كتلة الحرية والتغيير لم تواجه (التسوية) بقلب واحد، فهناك مجموعات (البعث) الرافضة لها.. ومجموعات الشارع (لجان المقاومة/ الثوار) التي رفعت شعارات (الرفض ــ واسقاط الانقلاب) كخطوة مصيرية، وهي تنتظم في مواكبها وقد أعلنت عن جداول مواكب نوفمبر.. أحداث بالجملة ومواقف عديدة، وعدم استبيان للحقائق يجعل أقوى المحللين (حائر النظر).. الأمر الذي يضع جملة من السيناريوهات المحتملة.
وطلب الجيش ــ طبقاً للوكالة ــ رداً على مسودة الدستور بأن يسمح له بتسمية قائده العام، وذلك وفقاً لشخص اطلع على الملاحظات، والتي تتضمن أيضاً وجهة نظر الجيش بشأن إعادة هيكلة أنشطته الاقتصادية والتخلي عن بعض منها.. وذكر مصدران لـ (الوكالة) من قوى الحرية والتغيير أنه جرى التوصل لتفاهم مع الائتلاف بعدم ملاحقة كبار ضباط الجيش قضائياً، لكنهما أضافا أن المشاورات ستستمر على نطاق أوسع بشأن موضوعات الحصانة والعدالة الانتقالية.. وقالت مصادر (رويترز) إن الاتفاق الجديد سيتضمن أيضاً مشاركة حزبي المؤتمر الشعبي والوحدوي الديمقراطي المرفوضين في السابق بسبب مشاركتهما نظام حكم البشير.
صفقة الحصانة!!
يرى عدد من المراقبين أن مشروع التسوية الذي يقوم على أساس (وثيقة المحامين) هو أقرب للصفقة منه الى التسوية، ويظهر قادة الجيش السوداني بأنهم الأقرب لموقع (الضعف).. وهو الأمر الذي تكذبه تفاصيل الواقع.. فمنذ الاجراءات الاصلاحية التي أجراها الجيش على هياكل السلطة في الخامس والعشرين من أكتوبر 2021م وحتى اليوم يظهر الجيش في المشهد السياسي بأنه (الأقوى).. لاعتبارات أنه صانع الأحداث وبقية القوى السياسية في دائرة (رد الفعل).. ويتساءل البعض لماذا سربت (رويترز) تفاصيل التسوية، ووضعت القيادة العسكرية بأنها (الأضعف)؟.. الأمر الذي يخرج (التسوية) ــ بحسب المراقبين ــ من اطارها ووضعها في قالب أقرب لـ (صفقة سياسية).. وذلك عبر التوقيع على تنازلات بشروط محددة.. وأشار المراقبون الى أن الصفقة واضحة في بند (عدم الملاحقة قضائياً).. وهنا يبرز سؤال مهم.. من يمنح من؟ وهل الحرية والتغيير/ المجلس المركزي في موقع يمنحها الحق في توزيع (الحصانة للعسكريين) وفقما تشاء؟
تكتل جديد!
برز تكتل جديد في الساحة تكون من (مجموعة الحرية والتغيير التوافق الوطني، بالاضافة للحزب الاتحادي الأصل وحزب البعث السوداني ومكونات أهلية)، وأطلق عليه اسم (قوى الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية).. هذا الائتلاف وقَّع على تعديلات جديدة أجراها على الوثيقة الدستورية بتغيير مسمى (الحرية والتغيير) والاستعاضة عنه باسم (القوى السياسية والمدنية وحركات الكفاح المسلح واطراف العملية السلمية ولجان المقاومة).
وشملت التعديلات حذف اسم مجلس السيادة الانتقالي واستبداله بـ (السلطة السيادية) تتولى المهام السيادية في البلاد، على أن تبدأ الفترة الانتقالية من تاريخ التوقيع على الوثيقة.
وقالت الوثيقة إن مهام الفترة الانتقالية تتمثل في معالجة الأزمة الاقتصادية وتنفيذ اتفاق السلام واستكماله ومعالجة أوجه القصور في مسارات الشرق والوسط والشمال، والالتزام بقيام منبر جامع لقضايا شرق السودان تشارك فيه كل مكونات الإقليم.. واقترحت تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة برئاسة القائد العام للجيش وتمثل فيه الأجهزة النظامية الأخرى ويتولى مهام حماية البلاد والالتزام بالوثيقة الدستورية ودعم التحول الديمقراطي، فضلاً عن مجلس للأمن والدفاع يرأسه رئيس الوزراء ويمثل فيه قائد الجيش والحركات المسلحة وجهاز المخابرات، دون أن يشير إلى وضعية قوات الدعم السريع.
وشملت الوثيقة احتفاظ الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام بنسبة 25% من السلطة التنفيذية والتشريعية، وشددت على عدم تعديل الوثيقة بما يخالف اتفاق جوبا إلا بموافقة الأطراف الموقعة عليه.
بقرة مقدسة!
واضح أن هذا التكتل يسعى لوضع اطار جديد يحافظ فيه على المكتسبات التي حققها باتفاق جوبا لسلام السودان الموقع في الثالث من اكتوبر عام 2020م، وهذه الوضعية الجديدة دفعت المجموعة لطرح وثيقة تتضمن الحفاظ على مكتسباتهم ــ كأنها (بقرة مقدسة) لا يمكن المساس بها.. ومن الواضح أن سرعة افرازات الساحة السياسية تقود للمزيد من التعقيد، وباصرار كل طرف على عدم تقديم تنازلات ــ بما فيهم شركاء سلام جوبا ــ لن يصل أهل السودان الى شاطئ (الوفاق الوطني).. وتبقى الساحة مفتوحة على عدد من السيناريوهات، ليس آخرها بالطبع الفوضى وانفراط عقد السلام
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.