على هامش الذكرى الثالثة والخمسين لإنقلاب مايو جدلية ضرب نميري لوزرائه بالبنية والشلوت مابين المزايدة والحقيقة !!

كيف وقع الإنقلاب ؟

عاد العقيد جعفر نميري من جبيت بشرق السودان بحجة العلاج من وعكة طارئة ثم توالت الإجتماعات التحضيرية للإنقلاب غير أن إجتماعات التحضير النهائي قصرت على خالد حسن عباس وأبو القاسم محمد إبراهيم وفاروق حمد الله وزين العابدين عبد القادر وكانت تعقد في منزل أبو القاسم محمد إبراهيم وأحياناً في منزل أبوالقاسم هاشم وكانت القوى الرئيسة للقيام بالحركة تتكون من قوة المدرعات والتي تم التخطيط أن تكون في مهمة تدريبية في معسكر (خور عمر) وكانت القوة المساعدة لها هي قوة المظليين وحدد لها التحرك إلى منطقة (فتاشة) بضواحي أم درمان على أن تغير مسارها إلى منطقة (خور عمر) حيث تلتقي بقوة المدرعات المعسكرة هناك وأوكلت مهمة تحريك القوات المدرعة إلى أبو القاسم محمد إبراهيم وزين العابدين عبد القادر واللذين قاما بالسيطرة على سلاح المظلات بينما أوكلت مهام أخرى إلى أبو القاسم هاشم ومامون عوض أبو زيد في السيطرة على بعض المرافق العسكرية الأخرى .

وعند إقتراب ساعة الصفر في الخامس والعشرين من مايو 1969م توجه نميري إلى (خور عمر) ليلاً بسيارته وتوقف في منتصف المعسكر وقدم خالد حسن عباس للجنود العقيد جعفر محمد نميري قائد الحركة ثم أعلن نميري بأن التحرك سيتأخر ساعة عن موعده حتى لا يتزامن مع خروج المواطنين من ساحة الإحتفال بالمولد النبوي الشريف وقبيل الساعة الثالثة صباحاً تقريباً كانت القوات قد إحتلت المرافق الإستراتيجية مثل الكباري والهاتف والإذاعة والتلفزيون بينما إحتل نميري القيادة العامة وسرعان ما بدأت تصل تقارير بقية القوات والتي نجحت في آداء مهامها بسهولة عدا القوة التي قادها الرائد زين العابدين محمد عبد القادر والتي لاقت مقاومةً محدودةً من أحد كبار الضباط عند إعتقاله بينما لم يتمكن الرائد خالد حسن عباس من إعتقال اللواء حمد النيل ضيف الله رئيس الأركان والذي كان خارج المنزل وتم الإتصال بالقوات المسلحة بالولايات التي أعلنت تأييدها وفي السادسة صباحاً بدأت الموسيقى العسكرية تنطلق من (راديو) أم درمان ثم بدأت البيانات تتوالى .

جدلية ضرب نميري لوزرائه

كشف طبيب كان يعمل في إحدى المستشفيات العسكرية عبر برنامج إذاعي  في وقت سابق إن زين العابدين عبد القادر عضو مجلس ما يسمى بالثورة في عهد حكم الرئيس نميري كان مريضاً يتلقى العلاج في المستشفى وكان معه مطرب شعبي معروف تحول للغناء بالآلات الموسيقية الحديثة فاتصل نميري بزين العابدين للإطمئان عليه فسارع المطرب برفع سماعة الهاتف فقال له نميري ( أنت منو؟) فرد عليه بطريقة فيها شئ من الليونة ولم يمض وقت طويل عندما إقتحم نميري الغرفة في المستشفى ليجد المطرب فأنهال نميري عليه  بالضرب المبرح مستخدماً وسيلته المعروفة ( البنية والشلوت) ولم يتوقف حتى أخرجه من الغرفة .

الحدث يعضد الروايات التي تحدثت إن نميري كان يضرب بعض الوزراء الذين لم يرض عن آدائهم أو لمخالفات ما إرتكبوها ، وقبل سنوات قليلة كشف الإعلامي الراحل حسن عبد الوهاب للكاتب خالد موسى مشهد وقف عليه بنفسه شاهد فيه النميري يقوم بضرب أحد الوزراء  حيث كتب قائلاً روى الأستاذ حسن عبدالوهاب مؤكداً مشاهدته شخصياً لموقف ضرب فيه الرئيس نميري أحد وزرائه، فقال أنه صحب نميري في رحلة داخلية بالقطار إلى أحد المدن، وأراد الدخول عليه في صالونه بالقطار لتسليمه النشرة الإعلامية التي كانت تتضمن أهم الأحداث العالمية والمحلية وهي أحد مصادر المعلومات المفتوحة والمهمة للمسؤولين في ذلك الوقت قبل إنفجار عصر المعلومات. وفوجئ بمشهد درامي يقوم فيه الرئيس نميري بضرب أحد الوزراء فوقف واجماً أمام الباب فقال له الرئيس نميري (يا حسن أنت زول شريف؟) فرد علي الرئيس بالإيجاب (نعم أنا زول شريف يا ريس) فقال له نميري (خلاص ما تتكلم عن الموضوع الأنت شوفتوا هسه). فلاذ الأستاذ حسن عبدالوهاب بالصمت ، ورفض أن يكشف عن اسم الوزير المضروب وفاءاً للعهد الذي قطعه للرئيس نميري.) لكن الكاتب مصطفى عبد العزيز البطل إنبرى متشككاً في كل الروايات التي تحدثت عن ضرب نميري للوزراء (بالبنية والشلوت) وتناول رواية الأستاذ حسن عبد الوهاب ولم يخرجها من سياق الروايات الأخرى الشفاهية أو المكتوبة التي لعب فيها الخيال دوره حتى  بدا وكأنه جزءاً من الواقع من فرط تداوله  ، مستعيناً بأسلوبه المشتق من التراث العربي وجزالة قلمه المضخمة بالسخرية والاستدلالات المحشودة المطولة  لتقوية وجهة نظره ، لكن الكاتب خالد موسى استطاع أن يثبت على البطل عدة (فاولات) تكتيكية بل وضربات جزاء لا مجال فيها للنقض أو إعادة التصوير من عدة زوايا لتأكد من صحتها وقال:( إن البطل إعتمد في سياق نقده وتمحيصه على البينات الظرفية وهي في حكم القانون أقل درجات الإثبات حكماً إذا إنعدم الدليل المادي المباشر أو شاهد العيان وفند موسى حديث البطل عن أنه عمل مع الرئيس الأسبق جعفر نميري ولم يشهد هذا السلوك في ضرب مرؤوسيه من الوزراء وقال إن الحجة العقلية تبطل هذا الزعم أن الرئيس نميري تقلد منصب الرئاسة لمدة (16) عاماً ولا ينفي العمل معه خلال السنوات الأخيرة من  عمر حكمه ألا يكون قد وقع منه هذا التصرف في سنوات حكمه الباكرة الممتدة أحداثاً جثاماً أبيح فيها القتل وإراقة الدماء عليه فإن واقعة الضرب باليد والرجل في هذا السياق قد تكون متشقة وطبيعية في واقع فارت فيه الدماء وسالت الأرواح على خشبة المسرح السياسي )  ولعل حجة الأستاذ خالد موسى تبدو منطقية وقوية فالذي في عهده نصبت المشانق على الخارجين على حكمه بل نصب نفسه قاضياً وجلاداً هل يمكن أن يصعب عليه ضرب وزير من وزرائه ( بالبونية والشلوت) كما أن طبيعة الرجل الميالة للإنفعال والعنف تجعل من بعض روايات الضرب والركل شئ كبير من المصداقية وإن إختلط بعضها بطبيعة الحال بخيال الرواة أو ثارات السياسة ، وقالت مصادر موثوقة إن النميري عندما كان مراقباً من قبل أجهزة الأمن قبل إنقلابه في عام 1969م تضايق ذات يوم من المراقبة اللصيقة فهبط من سيارته وإتجه لسيارة فرد الأمن الذي كان يراقبه فأمسك بتلابيبه وهدده بالقتل إن تمادى في ملاحقته .

كما أن من الواضح أن نميري كان ينظر لوزرائه ليس بإعتبارهم يشكلون شركاءً في منظومة الحكم وإنما مجرد توابع لمملكة هو يمتلكها ولهذا كان يعمد لإعفائهم من مناصبهم بواسطة المذياع دون أن يبلغهم بالقرار شفاهةً أو كتابةً وكان لا يقبل بالاستقالة كما أشارت د. فاطمة عبد المحمود الوزيرة في العهد المايوي في برنامج (أسماء في حياتنا) واستدلت بأنها استقالت لمواصلة دراستها في الولايات المتحدة وبالرغم من موافقة نميري للاستقالة ومباركتها بل أقام لها حفل وداع  لكنه أصدر بياناً بإعفائها.

عنف وسفك دماء

بالرغم من أن المعروف  إن النميري تميز بطهر الإدارة المالية إلى حد كبير ونزاهته هو و معظم رجال حكمه وموتهم فقراء حيث لم تكن  لهم حسابات بالداخل أو في الخارج كما لم يتسم عهده بالتمييز السياسي الواضح في التعيين الوظيفي فلم تخل الخدمة المدنية من كافة ألوان الطيف السياسي حتى وقوع الإنتفاضة في إبريل 1985م.

بيد أنه مع ذلك كان مستبداً و عنيفاً أصدر أحكاماً بالإعدام على الذين إتهمهم بالإنقلاب على حكمه وأكد بعد عزله من الحكم وعودته للبلاد في عهد حكومة البشير القابضة إنه لم يندم للحكم بالإعدام على الذين خرجوا عليه وقال (كان ينبغي أن يعلقوا كاللحم  المراد تجفيفه) وهو طعام معروف في شمال السودان .

ويرى المراقبون إن الذاكرة الشعبية السودانية سريعة النسيان فكثيراً ما يعاودها الحنين لحقب حكم فيها مستبدين  فمازال لنميري أنصار يحنون لحكمه وما زال بعض البسطاء  اليوم يتحسرون يزوال حكم المؤتمر الوطني برئاسة البشير متأثرين بإعلام التضليل المصنوع بعناية إما من غرف الأجهزة السلطوية والأمنية التابعة لحكم البشير أو النخب المعروفة بإنتمائهم للجبهة الاسلامية رغم إن نظامهم بددوا  ثروات البلاد وإمتدت إياديهم حتى على القروض الدولارية وفق تقرير المراجع العام وحطموا البنيات الأساسية للصناعة والمشاريع الزراعية وحولوا مئات الأفدنة إلى قطع سكنية إمتلكوها بسطوة النفوذ  وتسببوا في إغلاق مئات الشركات  بعد  التضييق على أصحابها   بغرض فرض سياسة التمكين المالي ، لكن مع ذلك يبقى النميري رغم سوءات حكمه القاتمة أكثر نصاعةً من حكم البشير الاستبدادي وطغمته التي تحاول اليوم إعادة عقارب التاريخ إلى الوراء .

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.