لماذا لم يستفيد السودان من التجارب السابقة


“اختلاف طبيعة وتركيبة النظام السياسي الحزبي الذي كان قائماً من العوامل التي أسهمت في تعقيد الأوضاع وتأزمها على النحو الذي يحدث الآن”

ليست هي المرة الأولى التي يمر فيها السودان بفترة انتقال من حكم عسكري شمولي نحو تحول مدني ديمقراطي، فقد سبقتها مرحلتان في عامي 1985 و1964، وعلى رغم ما شابهما من تجاذب ومطبات، لكنهما عبرتا بسلام وانتهى كلاهما بانتخابات عامة أفرزت برلماناً منتخباً وحكومة حزبية تعددية بصرف النظر عن مصيرهما اللاحق، لكنهما لم تشهدا تعقيدات أو أزمات سياسية مثل ما يحدث اليوم، فما الذي اختلف ولمَ لم يستفد السودان من تجاربه الانتقالية السابقة التي مرت بسلاسة معقولة بعد انتفاضتين شعبيتين أطاحتا بنظامي جعفر محمد نميري والفريق إبراهيم عبود، العسكريين.

تنحي وانتقال عبود

لم يكن انقلاب الفريق إبراهيم عبود، واستيلاؤه على السلطة في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) 1958 بعد إطاحته الحكومة المدنية آنذاك، انقلاباً بالمعنى الصريح، إذ ذهب معظم المؤرخين إلى أنه كان أقرب إلى كونه عملية تسليم وتسلم بإيعاز من رئيس الوزراء عبدالله خليل، المنتمي إلى “حزب الأمة القومي”، خوفاً مما اعتبره تهديداً لحزبه من غريمه “الحزب الاتحادي الديمقراطي” لقطع الطريق عليه من الوصول إلى السلطة، مستبقاً الانتخابات البرلمانية.

استمر الجنرال عبود في الحكم لمدة ست سنوات حتى أطيح به في انتفاضة 21 أكتوبر (تشرين الأول) التاريخية، اضطر على إثرها إلى حل حكومته، لكنه بقي في السلطة إلى حين تكوين مجلس سيادة من خمسة أعضاء وحكومة انتقالية حزبية برئاسة سر الختم الخليفة في 30 من الشهر نفسه، ضمت هذه الحكومة إلى جانب أحزاب، “الأمة”، و”الوطني الاتحادي”، و”الشعب الديمقراطي”، كلاً من “جبهة الميثاق الإسلامي” و”الحزب الشيوعي”، فضلاً عن سبعة مقاعد وزارية لتمثيل النقابات والمنظمات المهنية، ووزيرين لجنوب السودان.

لم تستمر الفترة الانتقالية ما بعد انتفاضة أكتوبر 1964، التي اتسمت بحراك جماهيري ضخم تفاعلت معه كل القطاعات الوطنية أقل من 12 شهراً، لكنها لم تخل من بعض المعاكسات والضغوط المهولة التي واجهتها حكومة رئيس الوزراء، سر الختم الخليفة، من الأحزاب التقليدية، ما اضطره إلى الاستقالة في نهاية 1965، لتشكل بعدها حكومة جديدة أغلبها من الأحزاب التقليدية استعجلت تنظيم الانتخابات المبكرة في يونيو (حزيران) 1965.

سلاسة ما بعد نميري

في 25 مايو (أيار) 1969، استولى اللواء جعفر محمد نميري على السلطة في البلاد مطيحاً أيضاً بالنظام الديمقراطي الحزبي التعددي، مشدداً منذ البداية قبضته على الوضع السياسي بإنشاء تنظيم الاتحاد الاشتراكي الوحيد على الساحة السياسية، مؤمماً الحياة السياسية الحزبية، ما أدخل البلاد في أزمات اقتصادية عدة، شكلت الشرارة لحراك جماهيري في منتصف مارس (آذار) 1985، تبعه عصيان شامل تعطلت فيه المؤسسات والخدمات العامة، ونشأ جسم نقابي وحزبي موحد في الخامس من أبريل (نيسان) وقعت أطرافه على ميثاق تجمع القوى الوطنية لإنقاذ الوطن، وتوجت ذلك الحراك بانتفاضة السادس من أبريل 1985، وأعلنت خلاله القوات المسلحة تنحية النميري انحيازاً لثورة الجماهير، وفي غضون أسبوعين، تم تشكيل مجلس عسكري انتقالي ضم 13 من ضباط الجيش، برئاسة قائد الجيش وقتها الفريق محمد حسن سوار الذهب، في مقابل إعلان حكومة مدنية انتقالية برئاسة الجزولي دفع الله، أحد قادة الانتفاضة، زعيم إضراب الأطباء.

وبحسب علي محمد شمو، الذي عمل في أكثر من ثلاث حقب سياسية، في منصب وزير الثقافة والإعلام، فإن الفترة الانتقالية بعد انتفاضة أبريل 1985 كانت قصيرة وسهلة وسلسة لم تشهد خلافات عميقة، وحتى ما ظهر منها كان حول بعض التفاصيل الصغيرة، لكنها سرعان ما حسمت لصالح المشير عبدالرحمن سوار الذهب، الذي كان بدوره وفياً لكل التزاماته، بل ومتمسكاً بكل ما اتفق عليه ولم يشأ أن يستمر يوماً واحداً بعد انقضاء فترة العام الواحد المتفق عليها.

لفت شمو إلى أن التجانس وانعدام التجاذبات هو ما عجل بميلاد الحكومة المدنية التي قادها تجمع الانتفاضة، وقد مضت الأمور بكل هدوء نتيجة توافر الثقة وحسن النية والعلاقات الواضحة بين مجلس الوزراء والمجلس العسكري الانتقالي، وعلى رغم أن ميثاق الانتفاضة الموقع عليه من تجمع قوى الانتفاضة قبل سقوط النظام، كان قد نص على قيام مجلس تشريعي انتقالي، لكنه لم ينشأ بعد أن توافق الطرفان على تشارك التشريع اجتماعاتهما المشتركة، وتعهدا بحل خلافاتهما معاً، كل ذلك في ظل تمتع المجلس العسكري بسلطات سيادية محدودة.

ويشير شمو إلى أن الفترة الانتقالية ما بعد حكم جعفر نميري كانت محددة الزمن في 12 شهراً فقط، وأدوار العسكريين والمدنيين فيها محددة وواضحة، إذ كان كل منهم يدرك طبيعة مهمته تجاه الوصول إلى انتخابات عامة حرة ونزيهة، من دون أن تكون هناك وثيقة اتفاق بينهما. وبموجب التزامات الطرفين، انصرفت القوى المدنية السياسية لبناء أحزابها والتهيؤ للانتخابات، بينما انصرف العسكريون في المجلس العسكري الانتقالي إلى مهمات حفظ الأمن والمشاركة في الإعداد لترتيبات ما بعد الانتقال.

طبيعة النظام واللحظة الفارقة

ويتفق شمو بأن اختلاف طبيعة وتركيبة النظام السياسي الحزبي الذي كان قائماً واختلافه عن النظامين العسكريين السابقين، من العوامل التي أسهمت في تعقيد الأوضاع وتأزمها على النحو الذي يحدث الآن، إذ فرضت تلك الطبيعة الحزبية بشكل أو بآخر، مواجهات حزبية في هذه المرحلة، بالتالي أغرقت الساحة في الصراع والخلافات السياسية بكل محاذيرها وحمولاتها.

ويضيف الوزير السابق “كان لقاء البرهان وإبراهيم الشيخ الرئيس السابق لـ”حزب المؤتمر السوداني” خلال اعتصام القيادة العامة، يمثل اللحظة الفارقة والحاسمة في نجاح الانتفاضة، وهي اللحظة التي كان يجب أن توضع فيها الأمور في نصابها، عبر اتفاق واضح تحدد فيه الأدوار من دون الدخول في المفاوضات التي جرت لاحقاً بين الطرفين (عسكري ومدني)، وربما تكون تلك اللحظة هي محط ارتباك تشهده الفترة الانتقالية الحالية.

وفي سياق متصل، يرى المحلل الباحث في التاريخ السياسي، الأمين عبد القادر، أن الفارق بين الفترات الانتقالية التي مر بها السودان يرتبط بطبيعة الثورات والانتفاضات التي أطاحت بها، فانتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2019، كان رصيدها من الشباب الحي بمشاركة واسعة من العنصر النسائي، وكانت ذروة سنامها في اعتصام القيادة العامة الذي عجل بسقوط نظام البشير.

لم يكن هناك بعد انتفاضتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985، خلاف حول قناعات المجلس العسكري بأهداف الانتفاضة وإرادة الجماهير أو أدنى تعاطف مع الأنظمة المطاح بها، مثل ما حدث مع المكون العسكري في تحركات ديسمبر 2018، التي يعتبره عبدالقادر قد اختطف الانتفاضة منذ لحظة تدخل اللجنة الأمنية للنظام السابق وقطع الطريق عليها في 11 أبريل 2019، ثم انتهت بالانقلاب على المكون المدني والوثيقة الدستورية في 25 أكتوبر 2021.

الخطأ الفادح ومناهضة التغيير

ووصف الباحث السياسي، الوثيقة الدستورية 2019 بين المكونين المدني والعسكري، بأنها كانت واحدة من الأخطاء الفادحة للقوى السياسية التي قادت التفاوض وأقرت الشراكة مع العسكريين ومناصفتهم للانتفاضة. وباتت منذ ذلك الوقت نصف انتفاضة، ما أجج الحراك الجماهيري المستمر منذ انقلاب البرهان حتى اليوم، كثورة جديدة يقودها شباب المقاومة والشارع لإسقاط الانقلاب وانتزاع الحكم المدني الديمقراطي من جديد، بعد أن عجزت الأحزاب التقليدية عن حماية أهداف المتظاهرين، بسبب تضارب مصالحها ورغباتها، التي كانت السبب في تنامي ظاهرة الانقلابات العسكرية في الحياة السياسية السودانية.

دوامة الانقلابات

ومنذ ميلاد دولة السودان المستقلة عام 1956، وطوال فترة 66 عاماً، عاشت البلاد في دوامة من الانقلابات العسكرية، كان لحكم العسكريين فيها نصيب الأسد بأكثر من 53 عاماً، مقابل 12 عاماً فقط للحكم المدني الديمقراطي البرلماني التعددي، حكم فيها الفريق إبراهيم عبود ستة أعوام انتهت بانتفاضة أكتوبر 1964، وحكم اللواء جعفر نميري بعد انقلابه في مايو 1969 حوالى 16 عاماً حتى أطاحت به الانتفاضة الشعبية في 1985، ثم حكم عمر البشير 30 عاماً، مضافاً إليها عام انقضى من الحكم العسكري الحالي، الذي أطاح بحكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك في انقلاب 25 أكتوبر 2021.

وكان الفريق عبدالفتاح البرهان أعلن وقتها حال الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء، وفض الشراكة مع المكون المدني في قوى “الحرية والتغيير”، بتعطيل مواد رئيسة في الوثيقة الدستورية 2019، متعهداً بـ”تصحيح مسار الفترة الانتقالية، بتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة، واستكمال بناء مؤسسات الفترة الانتقالية وصولاً إلى الانتخابات العامة في 2023″، غير أن أياً من تعهداته لم تر النور حتى اليوم في ظل تعقيدات سياسية وانفلات أمني وتدهور اقتصادي مطرد، مما يهدد البلاد ويضعها على حافة مخاطر عدة.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.