ماذا يعني انسحاب المكون العسكري السوداني من “الآلية الثلاثية للحوار”؟ خطوة تربك قوى التغيير

بيان البرهان الأخير ألقى بالمسؤولية على عاتق الأحزاب السياسية والقوى الثورية ومراقبون يفسرون الابتعاد بأنه “مناورة لكسب الوقت”

دخل الشعب السوداني مرحلة جديدة بالمواجهة المباشرة مع القوى السياسية منفردة، بعد أن أعلن رئيس مجلس السيادة الانتقالي القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، عدم مشاركة المؤسسة العسكرية في المفاوضات الجارية حالياً التي تسهلها “الآلية الثلاثية”، وبرر هذا الانسحاب بإفساح المجال للقوى السياسية والثورية والمكونات الوطنية الأخرى للجلوس وتشكيل حكومة من الكفاءات الوطنية المستقلة تتولى إكمال متطلبات الفترة الانتقالية.

وألقى بيان مجلس السيادة الانتقالي في نقاط محددة بالمسؤولية على عاتق الأحزاب السياسية والقوى الثورية، مما يعني تغييراً في المسرح السياسي ومن سيقف في موضع المساءلة والمحاسبة، والتناحر المتوقع على التوظيفات السياسية.

هذه الخطوة غير المسبوقة تصور المكون العسكري بأنه ربما يكون في مقاعد المتفرجين من واقع مجيئها بعد ما يقارب الأعوام الثلاثة، هي عمر الفترة الانتقالية قبل تمديدها، بحسب المنصوص عليه في الوثيقة الدستورية. وأثبتت الفترة الانتقالية تذبذبها وعدم استقرارها ومروها بكثير من المطبات، فلم يضع المجلس السيادي خيارات استراتيجية للتخفف من أعباء الالتزام بمهماته، بل أصبح يدرك مدى فداحة الممارسة السياسية سريعة التحول المبنية على المصلحة من منظور الأفق السياسي الضيق للأحزاب وتجاهلها الواقع وعجزها عن قراءة مستقبل الحكم في السودان.

وبناء على هذه التطورات التي أربكت المشهد السياسي، لم يكن أمام مجلس القيادة من خيار سوى محاولة تجاوز هذه الفترة وتركها تمر بانتكاساتها إلى أن تستقر البلاد، بحيث يمكن وضع افتراضات واقعية تجاه قضاياه.

كما تعبر بشكل آخر عن أنها أتت نزولاً عند مطالب قوى المقاومة التي نشطت اعتصاماتها في مواقع عدة من العاصمة الخرطوم، متمسكة بإبعاد المكون العسكري من السلطة ورافضة جلوس ممثليها من القوى السياسية للحوار مع العسكر، ورافعة شعار “لا تفاوض ولا مساومة ولا شراكة”.

أزمات متراكمة

وتأتي خطوة البرهان غير المتوقعة والمفاجئة لشركاء الحكم المفترضين قبل الخصوم على خلفية الفشل الذي لازم الفترة الانتقالية، وعندما حاولت “الآلية الثلاثية” التي يترأسها ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة “يونيتامس” فولكر بيرتس، إقامة حوار مؤسس على الشفافية والقبول بالآخر، فشلت أيضاً في تأسيس هذا الحوار بغرض مساعدة الفرقاء السودانيين من العسكريين والمدنيين في الوصول إلى اتفاق سياسي. كما تمر هذه الخطوة متجاوزة التزام البرهان الذي ظل يجدده على الدوام بضرورة مواصلة عملية الحوار الجامع للتوصل إلى حل توافقي للأزمة السودانية، وكذلك نسفت دعاوى الأطراف الرافضة للحوار في ظل وجود العسكر بتشكيكها في جدواه.

وبعد أن أعلنت اللجنة السياسية للمكون العسكري بأنها أبلغت الآلية الثلاثية بتعليق الحوار الثنائي مع “قوى إعلان الحرية والتغيير”، مرر البرهان طلبه إلى الآلية والقوى السياسية بضرورة مواصلة الحوار في غياب المجلس العسكري.

استراتيجية جديدة

وعند البحث في السياقات التي صاحبت هذا التحول في الموقف العسكري، نجد أنه كان لا بد من اجتراح استراتيجية جديدة هدفها مواجهة الموقف الرافض للقوى السياسية بالانسحاب من الحوار، بينما الظل العسكري الكثيف موجود لمهمات أخرى مثل الدفاع وتحقيق الأمن في الأنشطة العسكرية والأمنية المتفرقة، وغير بعيد من حراك القوى السياسية. لكن بهذه الاستراتيجية يحصل المكون العسكري على استحقاق يتعاظم وفقاً لضعف وتفكك المكون المدني، ولا يعني ذلك أنه سيحتل موقعاً في مقاعد المتفرجين، وإنما سيشغل موقع المراقب والحكم من خانة التأجيل والاستعداد للردع.

وفي هذا السياق تبرز مقاربة وظيفية للمكون العسكري تتضمن التشويش على أنشطة وبرامج القوى السياسية، بما قد يربك خططها إيذاناً بتفجيرها على المدى المتوسط، وعليه رفع المكون المدني سقف طموحاته المبنية على هذا الخطاب بأن يدخل في حال نشاط سياسي ومشاورات ربما تقل قليلاً عن مستوى الحوار المأمول، إذ أظهر بعض المرونة في موقفه الرافض للحوار من قبل، وكذلك رفع من مستويات التنسيق والتغاضي عن المشاحنات السياسية، وتحييد التحركات ضد القوى المنافسة حتى يثبت للمكون العسكري أنه سينجح من دونه.

جدوى التغيير

ما طرحه بيان البرهان هو نتائج متقدمة لمشوار لم تبدأ أولى خطواته بعد، إذ بني على موقعه الحالي بعد البيان مباشرة، والمأمول من القوى السياسية هو مواصلة الحوار وافتراض تشكيل حكومة تنفيذية ليتم بعدها “حل مجلس السيادة وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة يتولى القيادة العليا للقوات النظامية، ويكون مسؤولاً عن مهمات الأمن والدفاع وما يتعلق به من مسؤوليات تستكمل بالاتفـاق مع الحكومة التي يتم تشكيلها”، وهذا بمثابة قفز على الأحداث، إذ إن افتراض تكوين حكومة تنفيذية يتم بموجبها حل المجلس العسكري يستلزم عملاً دؤوباً لا يكفي استبعاد المؤسسة العسكرية من الحوار وحده في تحقيقها، لكنها ستكون بمثابة عودة للمقاربات التي أثبت التاريخ السياسي السوداني دورانها في حلقة مفرغة، وأن الإمعان في تكرارها هو من باب خسارة الزمن غير المبررة.

ويطرح بعض السياسيين سؤالاً عن جدوى هذا التغيير في الوقت الحالي، وهو سؤال لازم الأزمة السياسية السودانية في اختياراتها وخطواتها وأحداثها منذ الاستقلال، وتكرر خلال الفترات الانتقالية من دون أن تفضي إلى حكومة ديمقراطية طويلة، فخلال ثلاث فترات تعددية ديمقراطية في السودان منذ الاستقلال، لم تتفق النخب السياسية المدنية على طبيعة حكم مستقل، كما لم تتوقف الصراعات والحروب، ولم تستقر الأوضاع على ائتلاف حاكم مستمر، فكل فترة فيها ذيلت بانقلاب عسكري مدعوم من حزب سياسي، كما تخللت فترات الحكم العسكري محاولات انقلابية.

مناورة كسب الوقت

وعلى الرغم من إدراكه فقدان المجلس العسكري عدداً من المكتسبات والامتيازات والتأييد المحدود الذي يبرز كلما نظر الناس إلى ما تم تحقيقه خلال الفترة الأخيرة من صولات الجيش على الحدود، والمضي قدماً في ملف الترتيبات الأمنية، إلا أن بعضهم يرى أن البرهان يهدف بقرار الانسحاب من الحوار إلى المناورة بغرض كسب الوقت والاستعداد لخطوة مقبلة لم تتضح معالمها بعد، ومن شأن هذا الانسحاب أن يغطي على عجز المكون العسكري عن ضمان إنهاء الفترة الانتقالية بحسب ما هو منصوص عليه، بالإعداد لانتخابات وتشكيل حكومة تنفيذية أو فشل أي حكومة انتقالية مشكلة على غرار حكومتي عبدالله حمدوك التي أتاحت له تحريك الشارع ضد العسكر بينما هو شريكهم في الحكم.

ولربما أدرك البرهان أن استمرار العسكر بطبيعتهم الراهنة وأمام المساءلة الجماهيرية والملاحقة بإقامة العدالة الانتقالية ستدخلهم في أزمة أكبر تتلاشى معها فرصهم في العودة للحكم كمنقذين، بعدما تنتهي المواجهة المقبلة بين القوى الثورية الممثلة للشعب والقوى السياسية المدنية.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.