مخاوف أمنية من تحول الصراع القبلي إلى سياسي في أنحاء متفرقة من البلاد.


السلطة الحالية تواجه انتقادات حادة بعد تجاهلها الاشتباكات الدائرة في النيل الأزرق
تغيرت معادلة الصراع في أقاليم الهامش السوداني بصورة كبيرة، وأصبحت الاشتباكات القبلية الناجمة عن ضعف السلطة الانتقالية وعدم قدرتها على بسط السيطرة الأمنية على مجمل الأوضاع مهيمنة على عدد من النزاعات والصراعات التي اتسعت رقعتها في العديد من المناطق الجغرافية.

الخرطوم – فرضت حالة الطوارئ في ولاية النيل الأزرق، جنوب السودان، التي شهدت اشتباكات طاحنة أدت إلى مصرع نحو 190 شخصا وإصابة عشرات آخرين إثر خلافات على الإدارة الأهلية بين قبيلة “الهوسا” وقبائل في منطقة تضم نحو ثماني مجموعات إثنية.

ولم تعلن السلطة السودانية أسباب الصراع الحقيقية بين الأطراف المتنازعة، إلا أن الأمم المتحدة أكدت أن القتال اندلع بسبب نزاع على الأرض، وهو أمر معتاد.

وتعد قبيلة “الهوسا” آخر القبائل التي استقرت في النيل الأزرق، وتحظر التقاليد المتوارثة امتلاك أفرادها للأرض، لكن عناصر فيها تريد تغيير هذا العرف.

البشري الصائم: الاحتقان يعود إلى عهد البشير، لكنه لم يكن يطفو على السطح
وتكمن خطورة الصراع القبلي في تمدده ليصل إلى مناطق بعيدة عن مكان اشتعال القتال، وهو ما حدث بالنسبة إلى الاشتباكات التي اندلعت من قبل في ولاية النيل الأزرق ووصلت إلى مناطق متفرقة في شرق ووسط البلاد، ما أثار مخاوف من حدوث حرب قبلية واسعة، وتكرر الأمر أكثر من مرة في اشتباكات قبائل “البجا” و”البني عامر” في شرق السودان لتصل إلى ولاية الجزيرة في الوسط.

ويعتبر استغلال الأراضي مسألة حساسة للغاية في السودان، حيث تمثل الزراعة والثروة الحيوانية 43 في المئة من الوظائف و30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتسبب الصراع في فقدان الآلاف من الأسر إلى المأوى والنشاط الاقتصادي، وأزمة غذاء حادة في مناطق النزاع، مع توقعات بتدهور كبير في أوضاع الأمن الغذائي.

البيئة السياسية أسهمت في تزايد وتيرة القتال القبلي، لأن الحركات المسلحة التي كانت تحظى بالقوة الأكبر في الهامش تفتتت إلى جماعات، وفقد عدد كبير منها قوته بعد التوقيع على اتفاق سلام مع الخرطوم منح قادتها حضورا على رأس السلطة.

ودشنت الحركات تحالفات علنية وأخرى خفية مع الجيش السوداني الذي يسيطر على مقاليد الحكم، ما أتاح للإدارات الأهلية في الهامش أن تعلن عن نفسها كقوة صاعدة.

كما أصبح انتشار السلاح في الكثير من مناطق الهامش عاملا مساعدا لزيادة العنف، ولم يكن كافيًا أن تُعلن الحركات المسلحة فقط وقف الحرب الأهلية لتهدئة الأوضاع.

وباتت هناك قوة مسلحة على الأرض تسعى لفرض هيمنتها، وما ساعدها على ذلك أن حكام الولايات لم يكونوا بنفس القوة التي تمتعوا بها في السابق بعد إقالة الولاة العسكريين عقب الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير، كما أن الجيش النظامي أضحى أكثر اهتماماً بالأحداث السياسية في الخرطوم.

ومستشار المجلس الأعلى للإدارة الأهلية في السودان البشري الصائم يقول لـ”العرب” إن الاحتقان بين القبائل كان حاضراً منذ حكم البشير، لكن الأحداث لم تكن تطفو على السطح بالصورة الحالية مع ضعف السلطة التي قادت إلى ظهور نزاعات إثنية وصلت إلى مناطق عاشت في سلام أهلي سنوات طويلة مثلما الحال في شمال السودان، وأن القبائل أساءت فهم الديمقراطية وتبحث عن حقوقها بالقوة.
ويؤكد الصائم أن نفوذ القبائل يتخطى قوة الحركات المسلحة، وأن تطور أنواع السلاح التي امتلكتها بعد أن بدأت صراعاتها بالأسلحة البدائية ووصولاً إلى امتلاك أنواع مختلفة من المدفعية جعل هناك إمكانية لوجود تنظيمات مسلحة جديدة وقودها أبناء القبائل.

وتقود هذه النتيجة إلى مردود سلبي على أيّ حل للأزمة السياسية، ومع امتلاك بعض القبائل زمام الأمور وتحدي السلطة المركزية ربما تصبح في وضع أقوى منها، كما يوضح الصائم الذي يبين أن انعكاسات التمادي في عسكرة القبائل بدأ يظهر عبر اختلاف الصورة التقليدية للتقسيم الإداري في المحليات التي كانت تقوم على التقسيمات الجغرافية، في حين تتعالى أصوات القبائل الآن نحو إحداث تقسيم قبلي، بمعنى رسم حدود واضحة بين القبائل، كما تطالب قبائل الشرق وبعض القوى الحاضرة في غرب كردفان، حيث وصل الأمر بهما إلى مستوى المطالبة بقيام ولايات قبلية.

وتتخذ بعض القبائل من الأزمة السياسية الراهنة مدخلاً مناسبًا للصراع مع قوى قبلية أخرى، فلدى قبائل النوبة في منطقة غرب كردفان قناعة بأن قبائل “المسيرية” التي تدخل معها في اشتباكات مسلحة لديها عناصر كبيرة من الدفاع الشعبي التابعة للنظام السابق، وأنها في مواجهة معها لمحاربة بقايا هذا النظام.


ويذكر أستاذ العلوم السياسية بجامعة بحري في الخرطوم أبوالقاسم إبراهيم آدم أن انشغال الأحزاب والحركات المسلحة بالصراع السياسي والخلافات الشخصية أسهم في بروز تكتلات أهلية، ما جعل الصراع في أبعاده العامة يأخذ طابعا قبليا هو أخطر من السياسي، لأن الاقتتال القبلي يؤدي إلى تفتيت المجتمعات وينذر بتصاعد المطالب الانفصالية.

وشدد في تصريح لـ”العرب” على أن القوات النظامية أو جيوش الحركات المسلحة تتشكل من عشائر وقبائل مختلفة، ما يجعل الصراع الحالي وتمدده له خطورة على تماسكها، وإذا جاءت مواقف الحكومة في صف طرف فإن الاقتتال الحالي قد يتحول ضد السلطة، وتبدو الفرصة مواتية ليصبح الصراع منظمًا في العديد من الولايات.

وأكد أن خطورة الوضعية الراهنة تكمن في تحول السودان إلى ما يشبه حالة بعض الدول المجاورة، ويصبح الصراع فيه على أساس قبلي وليس سياسيا، ما يصعب التحكم فيه، ويتمثل الحل للتعامل مع المشكلات المتصاعدة في الهامش في الوصول إلى اتفاق يُنهي الاحتراب السياسي في البلاد، ويُفضي إلى تشكيل حكومة مفوضة بكافة الصلاحيات لاستكمال الفترة الانتقالية، مع أهمية استعادة هيبة القوات النظامية وسلطاتها.

وتواجه السلطة الحالية انتقادات لاذعة من مكونات سياسية وقبلية بعد أن تجاهلت الاشتباكات الدائرة في النيل الأزرق، ولم تقم بتحركات كافية لإطفاء النيران المشتعلة بين القبائل، في وقت تنشغل فيه بالتوصل إلى تسوية سياسية منقوصة.

وأعلن حاكم إقليم النيل الأزرق أحمد العمدة بادي فرض حالة الطوارئ وحظر التجوال من السادسة مساء حتى فجر اليوم التالي، إلى حين استقرار الأوضاع وتهدئة الموقف، وطالب بمنع التجمهر وحمل السلاح الأبيض والعصي وكل ما يؤدي إلى وقوع جريمة.

وخرج المئات من المواطنين في تظاهرات تحركت صوب أمانة الحكومة نددت بالاقتتال الدامي وطالبت بإقالة حاكم إقليم النيل الأزرق التابع للحركة الشعبية، جناح مالك عقار، استجابة لدعوات أطلقتها مكونات أهلية في المنطقة اتهمت الحاكم بالتقاعس عن حماية المدنيين وعدم قدرته على وقف الاقتتال القبلي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.