مشهد مؤلم من معاناة المياه داخل العاصمة..الأسباب الحقيقية لعطش الخرطوم والولايات

القرارات العشوائية التي تفتق عنها ذهن نظام الإنقاذ البائد بحل وتذويب كثير من الهيئات والمؤسسات الحكومية ألقت بظلالها الداكنة على أدائها ما تسبب في تخبط قراراتها وفشلها وتحولها إلى (عالة) على الدولة وأفقدت المواطنين الخدمات المهمة التي كانت تقدمها لهم .. أخطر قرارات العهد البائد على الإطلاق القرار الجمهوري رقم (1155) الذي أصدره الرئيس المخلوع بحل (الهيئة القومية لمياه المدن)، و(الهيئة القومية لمياه الريف).. هذا القرار الذي يرى فيه الكثيرون أنه المسؤول الأول عن العطش الذي تعاني منه حالياً العاصمة القومية والولايات .. ورغم أن أصابع الاتهام بموجة العطش التي ضربت أحياء العاصمة ومدن الولايات تشير إلى هيئة مياه الخرطوم والهيئات المماثلة لها بالولايات لكن هذا غير منصف، إذ أنها هي الأخرى تعاني ما تعاني من إفرازات القرار الجمهوري الكارثة حيث تقلصت صلاحياتها وميزانياتها وتشردت كفاءاتها من مهندسين وفنيين بوزن الذهب في صناعة المياه .. فما حقيقة القرار الجمهوري رقم (1155)؟ .. وكيف عصف بمنظومة المياه بالعاصمة والولايات وأصبح باباً واسعاً للتجاوزات الإدارية والمالية ونهب الأموال المخصصة أصلاً لترقية وتحديث أنظمة المياه المختلفة بكل أرجاء البلاد؟ .. وما ملابسات وتفاصيل إستيلاء بعض النافذين الإنقاذيين على القروض الأجنبية التي تفضلت بها بعض الهيئات والمؤسسات الأممية لحفر آبار جوفية في دارفور أكثر المناطق عطشاً بالبلاد؟ .. وكيف تحولت مرافق مياه الشرب بالبلاد لإقطاعية لبعض مسؤولي النظام البائد وأتباعهم؟ .. (الحراك) تجيب عن هذه الأسئلة والتساؤلات وغيرها عبر هذا التحقيق الاستقصائي**.

حسب المصادر فإن القرار (العشوائي) بحل الهيئة القومية لمياه المدن والريف والذي أشرنا له بالتفصيل في الحلقة الأولى الصادر عام 1994م بقرار جمهوري من الرئيس المعزول، وقضى بتكوين هيئة اتحادية تتبع لوزارة الري، كان الهدف منه إدخال الشركات المملوكة لبعض النافذين في حكومة الإنقاذ، مستدلين على رأيهم هذا أنه بعد قرار الحل تم حل (شركة الحفريات) والتي كانت تتبع لهيئة مياه الريف، واستعاضوا عنها بشركات حفريات خاصة.. كما استولى على آلياتها بعض النافذين المحسوبين على النظام البائد..

حسب إحصائية رسمية تبلغ جملة محطات المياه النيلية بولاية الخرطوم (13) محطة تشكل نسبة (40) في المائة من الإنتاجية، بينما يبلغ عدد الآبار الجوفية بالولاية (2200) بئر إنتاجيتها (مليون) و(900) ألف متر مكعب تشكل إنتاجيتها (60) في المائة..وفي السابق عند حلول فصل الشتاء تخضع الطلمبات والفلاتر للتأهيل وأعمال الصيانة، وكل أنظمة فلترة المياه كان يتم إعادة تأهيل لها، وللأسف هذا الإجراء الذي كان يتم سنوياً انعدم تماماً خلال السنوات الأخيرة، حيث فشلت رئاسة الإدارة فشلاً ذريعاً في تأهيل المحطات والطلمبات، ولم تستطع إدارة مصادر المياه بالصورة المرجوة ما أصاب الإمداد المائي بالولاية بالدمار”..وحسب ما ذكره لي “محمد أحمد بُكاب”، المهندس واختصاصي وخبير المياه:الدمار الذي لحق بهيئة مياه ولاية الخرطوم خلال الفترة:(2020 ـ 2021م)، لم يحدث من قبل بسبب عدم تأهيل أنظمة المياه والإهمال الذي لحق بالمصادر النيلية والآبار معاً.. وتعاني الهيئة حالياً من القصور بسبب إهمال أعمال الصيانة الوقائية والصيانة بصفة عامة، حيث تم إهمال صيانة الخطوط، والطلمبات، والفلاتر، والمصادر، والدورانات ـ أحواض الترسيب ـ والتي تراكم فيها الإطماء..كما أن كل المهندسين الأكفاء بمختلف تخصصاتهم تركوا العمل في الهيئة.. والأمر الغريب أن الهيئة منذ إنشائها عام 1994م وحتى اليوم لا يوجد بها سوى مساح واحد فقط وهو غير معين رغم أنه قدم للهيئة استشارات فنية مهمة في مجال المساحة، وظل يأتي يومياً لمكاتب الهيئة بهدف تعيينه لكن لم يتم استيعابه رغم كفاءاته وحاجة العمل له، وتوفى قبل استيعابه (كمداً وحسرة)!..ولا أدري كيف تعمل الهيئة في مد شبكات المياه بدون مساح؟!.. وهذا قد يفسر الانفجارات الكثيرة والمتكررة في شبكات المياه، وخلو بعضها من المياه لخلل في انحدار الشبكات.. وسوف تظل مشكلة المياه تتراكم وتتفاقم إذا لم يتم إحياء الهيئة مرة أخرى”.

هناك إشكالية أخرى أفرزتها عشوائية القرار الجمهوري (1155)، فالهيئة الاتحادية تم تشكيلها من إدارات المشروعات في مياه المدن ومياه الريف، ولذلك كل التجارب المتراكمة منذ تشييد (شركة النور للمياه والكهرباء) سنة 1954م، كانت تحتفظ بها إدارة المشروعات وبعد القرار الجمهوري ذهبت جميعها للهيئة الاتحادية، ولذلك الكوادر التي تبقت في الهيئات الولائية أصبحت تفتقد للإرث المتراكم في صناعة المياه ما أضعف من أدائها كثيرا والذي انعكس جلياً في قطوعات المياه وشحها بل انعدامها تماماً في بعض المناطق والأحياء.

فخلال شهر رمضان وقبله وبعده وحتى اليوم رصدت أكثر أحياء العاصمة شحاً للمياه وهي:الديم حي السباق غرب تعاني من انعدام كامل لمياه الشبكة منذ قبل رمضان بنحو (15) يوما والسكان هناك يشترون كارو المياه الذي يحتوي على برميلين بمبلغ (4) آلاف جنيه لا يقضي حاجة الأسرة أكثر من يومين، علماً أنها مياه مجهولة المصدر واحتمال تلوثها وارد ولذلك تستخدم فقط في غسيل الملابس والأواني المنزلية والحمام ..نفس العطش يعاني منه سكان الحلة الجديدة منطقة أبو حمامة، والديم وسط مربع (5 + 4)، والحلة الجديدة منطقة معهد الموسيقى والمسرح، والديوم الشرقية منطقة باشدار، والديم قرب نادي العلمين، والمايقوما، ومنطقة النزهة قرب السوق الشعبي الخرطوم، أما سكان الفتيحاب أبوسعد فهم أكثر معاناة حيث ظلت شبكات المياه فارغة لا تجود بالمياه منذ أكثر من ثلاثة شهور كاملة، ما أجبر بعض الأسر النزوح خلال شهر رمضان وعطلة عيد الفطر للأحياء الأخرى التي تنعم بالمياه ولم تتكرم مياه أمدرمان بتوضيح الخلل في شبكتها رغم عشرات البلاغات التي وصلتها من سكان الحي المذكور، ولذلك أصبحوا يعتمدون على مياه الكاروات والتي لا يعثرون عليها إلا نادراً.. وفي منطقة الخرطوم التي تشهد انقطاعاً كاملاً لمياه الشبكة اضطر سكانها شراء تانكر المياه بمبلغ (30) ألف جنيه لملء الخزانات!!.. كما تشهد منطقة الخرطوم اثنين الواقعة في قلب العاصمة الخرطوم موجة عطش (حارقة) منذ أكثر من عشرين يوماً، وأشار عدد من سكانها: “الغريب أن السفارة اليابانية الواقع بنفس المنطقة تنعم بالمياه رغم أن خط المياه واحد”.. هذا على سبيل المثال لا الحصر فمعظم أحياء ولاية الخرطوم تعاني من شح أو انعدام مياه الشرب.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.