من يمول جيوش السودان؟
الترتيبات الأمنية أعاقت دمج الحركات المسلحة في الجيش الوطني والكلفة المادية تزيد على 4 مليارات دولار
بينما يمر السودان بأوضاع اقتصادية صعبة نتيجة للعزلة التي فرضها عليه المجتمع الدولي بوقف مساعداته المالية عقب الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، تبدو وضعية ثمانية جيوش في البلاد وتمويلها مثار تساؤل.
الخبير السوداني في إدارة الأزمات والتفاوض اللواء أمين إسماعيل مجذوب قال إن “وجود جيوش عدة في البلاد هو نتاج اتفاق جوبا للسلام الموقع في أكتوبر الماضي وبموجبه دخلت الحركات المسلحة في العملية السلمية وأصبحت القوات التابعة لها تسمى مجازاً الجيوش، لكن لم تكتمل حتى الآن مسألة الترتيبات الأمنية حتى تدمج قواتها في الجيش السوداني، وذلك لأسباب مادية وسياسية ولوجستية تتعلق بالتدريب والملابس والمرتبات التي تزيد كلفتها على 4 مليارات دولار”.
وفي السودان إضافة إلى الجيش الوطني، قوات الدعم السريع وقوات حركة العدل والمساواة وقوات حركة جيش تحرير السودان وقوات جيش تحرير السودان (المجلس الانتقالي) وقوات الحركة الشعبية شمال وقوات حركة تجمع قوى تحرير السودان وقوات حركة تمازج وغيرها من القوات والميليشيات.
وأوضح مجذوب أن “هذه القوات تشكل دعماً سياسياً وعسكرياً ومعنوياً لقادة هذه الحركات الموجودين حالياً في مجلسي السيادة والوزراء بموجب بروتكول تقاسم السلطة ولاحظنا تهديد بعضهم بقولهم إنه إذا حدث أي تعديل في اتفاق السلام سيعودون للحرب مرة أخرى”، وتابع “هذه القوات تتمركز الآن في مناطق تجميع خاصة باللجان العليا للترتيبات الأمنية سواء في النيل الأزرق أو دارفور وهي تتحرك بإمرة قادتها، لكن هناك تداعيات أمنية لهذه القوات فربما يلجأ بعضها إلى إحداث فلتان في الشارع السوداني ولاحظنا بعض البلاغات المخالفة للقانون الجنائي ضد مجموعات ترتدي زي الحركات وتتحرك بمركبات من غير لوحات مرورية”.
وأشار إلى أنه من المفترض تمويل هذه القوات من موازنة الدولة بالكامل وفق ما اتفق عليه في جوبا، سواء من حيث الرواتب أو التعويضات بما فيها معسكرات تجميع هذه القوات وهذا التزام جاء في اتفاق السلام على رغم أنه عبء اقتصادي”.
وشرح مجذوب أن بعض هذه القوات تشارك حالياً مع القوات المشتركة لحفظ الأمن في إقليم دارفور وحماية السكان العائدين لقراهم، لكن هذه القوات المشتركة لم تشكل بالصورة المتفق عليها في الترتيبات الأمنية بأن تتكون من 12 ألف فرد مناصفة مع القوات المسلحة السودانية.
تسريح الجيوش
في السياق قال الناطق الرسمي للتحالف السوداني ونائب رئيس جبهة كفاح السودانية حذيفة محيي الدين البلول، إن “معظم الدول التي تشهد فترات نزاع وحروب تمر بالمراحل ذاتها التي يعيشها السودان هذه الأيام، وهو أمر طبيعي ومقدور عليه إذا كانت هناك رغبة أكيدة من الأطراف في تنفيذ الاتفاقات، فالهدف من الفترة الانتقالية ترتيب الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية التي شهدتها البلاد بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) المجيدة وبعد توقيع اتفاق جوبا للسلام والتي يجب أن تنتهي بتوحيد جيوش الحركات المسلحة في جيش واحد قومي في ضوء الأسس والمعايير التي يتضمنها قانون القوات المسلحة السودانية”، وأضاف “بروتوكول الترتيبات الأمنية وضع جدولة زمنية لهذه العملية تشمل فتح المعسكرات ودمج الجيوش أو تسريحها، لكن التأخير غير المبرر الذي ظل يلازم اتفاق السلام خلق السيولة الأمنية، فضلاً عن وجود سلاح من جهات أخرى غير منضوية تحت اتفاق جوبا للسلام، والتباطؤ في تنفيذ ما يتعلق بملف الترتيبات الأمنية ألقى بظلاله السالبة على معالجة الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية”.
وتابع “أما في شأن تمويل الجيوش المتعددة، فمنصوص عليه في اتفاق جوبا للسلام، بخاصة في ما يتعلق بملف الترتيبات الأمنية، إذ التزمت حكومة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك وقتها عملية التمويل، تحديداً البند الأول الخاص بفتح المعسكرات وتمويل عمليات الدمج والتسريح وهذا ما لم ينفذ حتى الآن ولا أعتقد بأن السبب يرجع إلى الأوضاع الاقتصادية الراهنة لأنه في بداية تكوين الحكومة الانتقالية كانت هناك وفرة في الأموال، لكن لم تكن هناك جدية ورغبة في ذلك، فالظروف الاقتصادية والسياسية بلغت ذروتها بعد قرارات 25 أكتوبر التي حالت دون التزام القائد العام للجيش تنفيذها”، ولفت إلى أن “هذه الجيوش ليست لديها مهمات حالياً فهي موجودة في مناطق الارتكازات المحددة بحسب اتفاق جوبا عند أطراف مناطق النزاع مثل جنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق وتخضع لأوامر قادة حركات الكفاح المسلح لأنها لم تأخذ الصبغة القانونية ولم تدمج حتى تأتمر بأمر وحدات الدولة النظامية وهي مرحلة سابقة لأوانها، فهذه القوات في انتظار بدء عملية الترتيبات الأمنية ولا تشارك حالياً في أي نشاط نظامي يخص أمن البلاد”.
من جهته أوضح نور الدائم طه، الأمين السياسي في حركة جيش تحرير السودان بقيادة أركو مني مناوي أن “قوات حركات الكفاح المسلح ظلت تمول نفسها بنفسها منذ بواكير معارضتها لنظام الرئيس المعزول عمر البشير قبل قرابة عقدين من الزمان، لكن بعد توقيع اتفاق جوبا للسلام كان من المفترض تنفيذ بروتوكول الترتيبات الأمنية الذي على ضوئه تدمج هذه القوات في الجيش القومي وهذا لم يحدث لذلك ظلت تلك القوات في انتظار توافق سياسي بين المدنيين ومن ثم تشكيل الحكومة حتى تقوم بمهماتها كاملة المتعلقة بإدارة الفترة الانتقالية ومن بينها مسألة الترتيبات الأمنية”.
وأردف “هذه القوات تحت سيطرة الحركات وتتبع التعليمات والنظم المعمول بها داخل دساتيرها وما يثار من حديث عن التمويل والأعباء التي تشكلها على موازنة الدولة، فهو كلام سطحي يراد به صرف الأنظار عن القضايا الأساسية التي تتعلق باستقرار البلاد، لكن بشكل عام عندما ينفذ بند الترتيبات الأمنية ستكون هذه القوات جزءاً من الدولة السودانية ممثلاً في مؤسستها العسكرية”.
وضع شائك
في المقابل أشار أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعات السودانية حسن بشير محمد نور إلى أن “مسألة تمويل الجيوش المتعددة تمثل إحدى المشكلات الكبرى في البلاد، فمن المفترض أن يكون هناك جيش قومي واحد وألا تكون هناك تشكيلات عسكرية أخرى تمول من الموازنة العامة للدولة، فالوضع شائك ومعقد جداً، فهناك على سبيل المثال قوات الدعم السريع التي تتمتع بوضع خاص وتمول نفسها لما تملكه من موارد ضخمة جعلتها إمبراطورية قائمة بذاتها، لكن في شأن تمويل الجيش وبنود الصرف على الأمن والدفاع فهناك غموض شديد نظراً إلى انعدام الشفافية والمحاسبة والمعايير المتبعة وهذا ليس وضعاً جديداً، فطوال فترة نظام البشير السابق الذي استمر ثلاثين عاماً لم تكن تفاصيل الموازنة المتعلقة بالجانب العسكري واضحة كما هو متبع في كل دول العالم”.
وأردف نور “هذا الأمر يحتاج إلى دولة ذات مؤسسات راسخة وحكومة قوية تسيطر على المال العام وتضع كل البنود المتعلقة بالإنفاق والصرف العام وفقاً للمعايير والضوابط العامة، مستدركاً “ما دامت المؤسسة العسكرية تسيطر على مؤسسات اقتصادية بعينها بعيداً من ولاية وزارة المالية فإن أي حديث يتعلق بالجوانب المادية في هذه المؤسسة يعتبر غير دقيق”
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.