هل يعود الإسلاميون إلى حكم السودان؟

عوامل عدة قد تسهم في وصولهم إلى قلب الصراع السياسي الحالي ووقتها ستكون حسابات أخرى للرابح الأخير

على الرغم من أن التدابير المناهضة لظهور الإسلاميين إلى سطح الأحداث في ظل الحكومة الانتقالية مستمرة في التصاعد، فإن فك الارتباط بين حزب “المؤتمر الوطني” الحاكم السابق، سواء كان بظهوره العلني أو من وراء تيارات إسلامية أخرى، وبين مجرى الأمور السياسية في السودان يبدو عسيراً بعد أن توزعت هذه التيارات وازدحمت بها أروقة الحكومة ودكة المعارضة على السواء. وعليه سيكون تجاهل وجود التيار الإسلامي مكلفاً ونوعاً من سوء التقدير للواقع السياسي في ظل الصراع القائم، خصوصاً أنه يسعى بكل ما لديه وما يمكنه من أجل تحقيق أهدافه من خلال زرع عضويته في القوى السياسية الحالية إيذاناً بتشكيل جسم سياسي مستفيداً من قدرته على الفعل السياسي في أصعب الظروف، وخبرته السياسية الطويلة في تفكيك الكتل السياسية المناوئة وتشتيت شملها.

ومع أن الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الانتقالي السوداني وبعض أعضاء المجلس السيادي يحرصون دوماً على تذييل بياناتهم وتصريحاتهم بعبارة “ما عدا المؤتمر الوطني” الذي حل بعد قيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، في دعوتهم للقوى السياسية للتوافق وتوحيد الرؤى وإتاحة فرصة المشاركة للجميع، باستثناء الحزب الحاكم في النظام السابق، لكن كأنما ذلك يختزل الإسلاميين كلهم في حزب “المؤتمر الوطني” دون غيره من التنظيمات الإسلامية الأخرى. وبحسب المؤشرات، فإن “المؤتمر الوطني” لن تكون له فرصة للحكم مرة أخرى، ولكن الفرصة ربما تخلقها الأزمة السياسية الحالية وانسداد الأفق السياسي لتكون مواتية للتيارات الإسلامية، سواء تلك المحسوبة على الحزب أو التي خرجت منه مغاضبة

تشكل الظروف التاريخية المحيطة بنشأة الحركة الإسلامية في السودان ركيزة أساسية في بنائها النفسي وتكوينها الأيديولوجي وسلوكياتها وممارساتها السياسية، ما ترك بصمة واضحة في خلق كيان أمني يسعى إلى ضمان تحقيق الوصول إلى السلطة أو الحصول على تحالف مع النظام القائم، أو خلق معارضة شرسة تصوغ كوادرها على ضرورة اقتلاع السلطة التي تعدها حقاً مستلباً. وعليه ترى أن نجاح القوى المناوئة لها يعني نهايتها، لذلك تعد الصراع مع أي منها صفرياً يمس وجودها. ومنذ وقت طويل تناوبت العمل على استراتيجيتين، هما اتخاذ مواقف عدائية من القوى السياسية الأخرى في أغلب الأحيان، أو التقارب مع أحزاب اليمين.

ولم تصل الحركة الإسلامية إلى خلاصة هدفها هذا بقرارات التنظيم، وإنما عملت عليه منذ قيام نظام “الإخوان المسلمين” بالسودان في أربعينيات القرن الماضي، ثم مرت بمحطات عدة حتى تحولت الحركة الإسلامية من حركة أيديولوجية إلى صاحبة نفوذ وسلطة مدعومة بنظام العسكر وميليشياتها الخاصة.

ومن قبل أورد الدبلوماسي والكاتب السياسي السوداني منصور خالد، في كتابه “تناقض السودانين: اتفاقية السلام الشاملة والطريق إلى التقسيم”، أن “سقوط نظام محمد جعفر النميري العسكري في أبريل (نيسان) 1985، هو الذي مهد لبروز الإسلام السياسي كقوة رئيسة في مركز السياسة السودانية، بطريقة غيرت راديكالياً قواعد اللعب”.

ووصف خالد الذي شغل منصب خبير في الأمم المتحدة والمستشار السياسي لجون قرنق زعيم “الحركة الشعبية لتحرير السودان” حتى مقتل الأخير في تحطم مروحية عام 2005، تبعات استيلاء الإسلاميين على السلطة في يونيو (حزيران) 1989، بقرارهم تحويل الحرب الأهلية في السودان إلى “بين المسلمين الأتقياء في الشمال وغيرهم في الجنوب” بأنه “من أكبر خيبات الخزي والعار التي اقترفوها”. والمفارقة التي كشف عنها خالد هنا هي أن الإسلاميين لا ينتظرون الوصول إلى السلطة للمضي في محاولاتهم فرض مشروعهم الإسلامي بالقوة، وإنما ظلوا يقومون بذلك في أغلب المطبات السياسية على طول تاريخ السودان الحديث، ومثال لذلك تواطؤهم مع الأحزاب الإسلامية التقليدية والطائفية في منتصف ستينيات القرن الماضي.

وبعد مكوث الإسلاميين في السلطة عشر سنوات بعد انقلاب 1989، حدث انشقاق الحركة الإسلامية الأكبر فيما عرف بـ”المفاصلة” الشهيرة في عام 1999، بإبعاد حسن الترابي ما عدته الحركة الإسلامية ممثلة في شقها الرئيس “الإخوان المسلمين” خيانة عظمى، وأفضى ذلك إلى تكوين حزبين هما “حزب المؤتمر الوطني” الحاكم بقيادة الرئيس السابق عمر البشير، و”حزب المؤتمر الشعبي” المعارض بقيادة حسن الترابي.

ومما يجدر ذكره هنا أن التنظيم الإسلامي الأصل “حزب الإخوان المسلمين” مستمر منذ أربعينيات القرن الماضي وأول زعيم له بصفة “المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في السودان” كان علي طالب الله، وتدرج “الإخوان” في تسلم قيادته إلى أن وصلت إلى صادق عبدالله عبدالماجد منذ انقلاب “الإنقاذ” إلى عام 2008، واستمر أعضاء “الإخوان” في تداول القيادة، ويرأسه الآن سيف الدين أرباب منذ 18 يونيو (حزيران) 2022، لكن الوضع المستجد بعد المفاصلة لم تسفر عنه أي مقاومة من قبل المعارضة التي كانت تنشط كلها بالخارج، ثم عادت في بداية الألفية وانغمست أحزابها، وعلى رأسها حزبا “الأمة” و”الاتحادي الديمقراطي” مع السلطة في حكومة الوفاق الوطني. وفي حالة فريدة من تبادل الأدوار، تحرك “حزب المؤتمر الشعبي” إلى المعارضة، ولكن بعد انفصال جنوب السودان عام 2011، واشتعال أحداث “الربيع العربي”، حاولت الحركة الإسلامية في السودان التيمن بها، وعبر عنها بعض أعضائها، ومنهم غازي صلاح الدين العتباني الذي انشق عن “حزب المؤتمر الوطني” بعد ذلك عام 2013، وأسس “حركة الإصلاح الآن”، الذي قال إن “صعود الإسلاميين في عديد من الدول العربية، وقبل ذلك في تركيا، يجب أن يبعث الطمأنينة في نفوس الإسلاميين الذين يمسكون بالسلطة في السودان بأن النظام الديمقراطي يمكن أن يكون في صالحهم”.

بات معلوماً أن ملف الحكم في السودان ليس مجرد ملف داخلي، وإنما لديه امتدادات إقليمية ودولية، هذا الواقع يفسر الاهتمام الذي أولته القوى الدولية بالأزمة السودانية، وتجسدت في بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية (يونيتامس)، والآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي و”إيغاد”، ودول “الترويكا” المكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج، ومجموعة أصدقاء السودان التي تضم كلاً من الأمم المتحدة وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا والنرويج وإسبانيا والسويد وبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. هذه الأجواء أقلقت التيار الإسلامي الذي ظل متربصاً، ومشككاً منذ البداية في نجاح الثورة، وغاضباً من زيارات شخصيات دولية، خصوصاً وفود الولايات المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية وآخرها زيارة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان.

وحتى الآن، فإن المحاولات الدولية لإحداث توافق حول نظام الحكم في السودان لم تسفر عن نتيجة مرضية، بالتالي أصبح من الصعب توقع انفراجة سياسية مرتقبة. ومن دون هذا التوافق، يصعب أيضاً توقع إجراء الانتخابات والوصول إلى نظام حكم ديمقراطي. في المقابل تبرز إشكالية أخرى تتعلق بتعاطي التيار الإسلامي مع هذا الوضع، مع ترتيب صفوفه وجاهزيته النسبية للحصول على مقعد وسط تزاحم القوى السياسية.

وقد يرى البعض أن التيار الإسلامي في حالة تقهقر، وهذه رؤية وفرتها الثورة التي ظل بعض أعضاء التنظيم يرددون أنهم جزء منها. ويتضح من تسميات وشعارات الحركة الإسلامية القديمة والحديثة أنها لا تزال تطرح نفسها كأداة لانعتاق العمل السياسي في السودان، وهذا يشير إلى أن المراجعات المزعومة هي وسيلة فقط للخروج من ديكتاتورية داخل التنظيم، إلى أخرى تفرضها على الشعب باعتبار أنها الأصلح للحكم، لتنتهي المراجعات والمحاسبة إلى غاية واحدة.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.