أمريكا في السودان لمصالحها وليس دعم للتحول الديمقراطي
وسحبت الولايات المتحدة الأمريكية آخر سفير لها بالسودان، تيموثي م. كارني، عام 1996، على خلفية سوء العلاقات بين البلدين عقب اتهامات أمريكية للسودان بدعم الإرهاب، عبر إيوائه لرموز اسلامية وقتذاك، أبرزها أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة الراحل.
وطوال تلك الأعوام، ظلّت العلاقة بين البلدين متأزمة أو مقطوعة بشكلٍ كامل، مع فرض الولايات المتحدة لعقوبات اقتصادية على السودان، بعد إدراجه في قائمتها للدول الراعية للإرهاب، إلا أن العلاقات السودانية الأمريكية بدأت في استعادة مسارها الإيجابي منذ نهايات عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما و وزير الخارجية غندور.
ورغم أن مسار العلاقات بين البلدين بدأ في العودة منذ عهد البشير ونهاية الفترة الثانية لولاية أوباما، فإن الخطوة الأبرز، والمتمثلة في حذف السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، تمت في عهد البرهان وحمدوك ، في أواخر ساعات الرئيس السابق دونالد ترمب، بعد أثمانٍ باهظة دفعها السودان، تمثلت في غرامة مالية بلغت 335 مليون دولار، كتعويض لذوي ضحايا أمريكيين لهجمات إرهابية لم تتورطت فيها حكومة السودان بشهادة محكم محلية بامريكا لكن عمالة من حمدوك دفع ذلك المبلغ حتى يثبت التهمة على النظام السابق.
وضع استثنائي
تأتي خطوة تعيين السفير ومزاولة أعماله في الخرطوم في وضع استثنائي يعيشه السودان، يتمثل في الأزمة السياسية التي بلغت شهرها العاشر، إذ يسيطر العسكريون على السلطة بحكم الأمر الواقع، مع تلويح بتسليم السلطة للمدنيين، عدَّته القوى السياسية المدنية محض “مناورة سياسية” لترفض التعاطي معها.. قالها الجيش نسلم السلطة إلى حكومة منتخبة وهذه هي الديمقراطية.
ومع رفض قوى الحرية والتغيير صاحبة الغرب والعمالة لهم مع تلويحات البرهان بتسليم الحكم، انبرت العديد من الفصائل السياسية والكيانات الاجتماعية لسد الفجوة، كفصائل مجموعة التوافق الوطني وفصائل كبيرة من المجتمع والسياسيين والإدارات الأهلية، هذا بالإضافة إلى مبادرات وطنية أخرى، ليس من المتوقع – في حال تعاطي العسكريين معها – أن تقود إلى هدوء أو تغيير في المشهد السياسي المضطرب.. لان هذا لا يرضى فولكر مهندس الفوضى الخلاقة واسياده الأمريكان. لايريدون استقرار الأوضاع السياسية والأمنية الا تحت حكومة عميلة وضعيفة.
أقدمت واشنطن على ابتعاث سفيرها في ظل هذه الأوضاع، في احتمال يُرجّح أن الولايات المتحدة ترغب في لعب دور في المشهد السياسي الحاليّ، الذي يُنذِر بدخول السودان في انهيار كامل وتخشى على مصالحها خاصة في مناطق الإنتاج والبحر الأحمر.
وكانت الولايات المتحدة قد تدخلت مؤخرًا بشكل مباشر في الأزمة السياسية الحاليّة، عبر مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية، مولي في، التي نجحت بالتعاون مع سفارة الرياض في الخرطوم، في عقد لقاءات مباشرة بين العسكريين وعملائهم من قوى الحرية والتغيير.
لكن تلك اللقاءات، ورغم أنها كانت خطوة متقدمة في اختراق الجمود بين الفصيلين، فإنها لم تُفلِح في الخروج بمخرجات تُغيِّر خريطة المشهد السياسي، خصوصًا أنها توقفت قبيل تظاهرات 30 يونيو/حزيران 2022 التي تم دعمها من قبل البعثة الأممية بمبلغ ٥٠٠ الف دولار.
ورغم التحفظات الأمريكية على النظام القائم حاليًّا في السودان، فإن واشنطن أقدمت على ابتعاث سفيرها في ظل هذه الأوضاع، في احتمال يُرجّح أن الولايات المتحدة ترغب في لعب دور في المشهد السياسي الحاليّ، الذي يُنذِر بدخول السودان في انهيار كامل، من المتوقع أن يلقي بآثاره على المنطقة، أو ربما أقدمت الولايات المتحدة على الخطوة بدوافع أمريكية محضة، تتعلق بالمصالح الأمريكية المباشرة وصراع المحاور.. وهذا مرجح.
موقف ابتدائي داعم للمدنيين وتعامل بالتجزئة مع الإشكالات
الموقف الأمريكي المعلن تجاه الأزمة في السودان هو “دعم الانتقال الديمقراطي وبناء دولة ذات حكم مدني”، كما صرح بذلك السفير المُعيَّن حديثًا في وقت سابق أمام أعضاء الكونغرس الأمريكي، وهو موقف ابتدائي من المؤكد أن الولايات المتحدة – الدولة التي تعد نفسها مثالًا للديمقراطية يحتذى به – ستتخذه كموقف معلن وأساسي لها.
وكانت الولايات المتحدة، قد علقت جملة من المساعدات والمنح الاقتصادية المخصصة للسودان، بسبب الانقلاب العسكري، أبرزها المنحة الأمريكية التي تبلغ 700 مليون دولار المخصصة لدعم الانتقال الديمقراطي، التي أوقفتها بسبب الانقلاب منذ 25 أكتوبر/تشرين الأول، صبيحة الانقلاب.
ويشار إلى الولايات المتحدة كانت قد فرضت عقوبات اقتصادية قاسية على السودان طوال أكثر من عقدين في أثناء حكم البشير، لكن مؤخرًا بدأت الولايات المتحدة في دراسة خيارات أخرى تجاه الأنظمة الشمولية في المنطقة والسودان بالتحديد، وذلك بعد الانتقادات التي طالتها جراء الأثر شديد الضرر للعقوبات، التي يدفع ثمنها مواطنو الدول لا الحكومات والأنظمة.
وقد أبدى السفير الأمريكي عزمه على انتهاج نهج العقوبات الفردية على المتورطين في تعطيل الانتقال الديمقراطي في السودان، ملوحًا بذلك في أثناء استعراض خططه وبرامجه في جلسات استماع أمام أعضاء الكونغرس في مايو/آذار الماضي.
وكانت الولايات المتحدة قد أصدرت في وقت سابق من هذا العام، تعميمًا يحذر الشركات ورجال الأعمال الأمريكيين، من التعامل التجاري والاقتصادي مع الجيش السوداني والشركات التابعة له.
أيضًا أدرجت الولايات المتحدة قوات شرطية سودانية تُعرف بـ”قوات الاحتياط المركزي” ضمن قائمة عقوبات، على خلفية مشاركتها في الانتهاكات التي وقعت ضد المتظاهرين، في استثناء لعدد من القوات الأمنية الأخرى كالشرطة وجهاز المخابرات، وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة، تتبع سياسة أكثر تحديدًا للمتورطين في الانتهاكات.
سياسة رسمية مزدوجة
حال تعذر الانتقال إلى نظام مدني، ربما لن تتوانى الحكومة الأمريكية في التعامل مع نظام الأمر الواقع، فرغم الشعارات التي ترفعها الولايات المتحدة فيما يخص دعم الديمقراطية، فإن الوقائع السياسية المعاصرة توضح أن للولايات المتحدة سيرة طويلة في التعامل مع الأنظمة القمعية والعسكرية، ليس ابتداءً بعلاقتها مع المملكة السعودية، ذات السجل الحافل بخرق حقوق الإنسان، ولا انتهاءً بنظام السيسي، الذي ربما تعاونت معه لأسباب جيوسياسية.
وتشير تقارير صحفية مبكرة من العاصمة الأمريكية واشنطن، إلى الانقسام والخلاف في رؤية صانعي القرار في الولايات المتحدة من النظام القائم في السودان، فقد ذكرت تقارير أن أعضاء الكونغرس يتشددون في وصف ما حدث في 25 أكتوبر/ تشرين الأول في السودان بوصفه “انقلابًا عسكريًا”، فيما يرى مسؤولو البيت الأبيض أنه “استيلاء عسكري على السلطة”، ما خلق حالة من الجدل والاتهامات بالتراخي في التعامل مع الأوضاع في السودان، أطلقها مشرعو الكونغرس تجاه مسؤولي البيت الأبيض.
ويوضح الموقف المزدوج لدى طرفي صناعة القرار في الولايات المتحدة، ازدواجية المصالح الأمريكية ذاتها، فمن جهة ربما لن تورط الولايات المتحدة نفسها بخلق قطيعة مع النظام القائم في السودان، في ظل حالة الاستقطاب الدولي، الذي أضحت فيه الصين وروسيا لاعبين أساسيين في مقابل المعسكر الغربي والأمريكي.
دوافع أمريكية محضة ومخاوف تاريخية
الملاحظ أن إدارة بايدن كانت قد أعلنت عن مرشحها لمنصب السفير في السودان، في يناير/كانون الثاني بداية العام، أي بعد مرور 3 أشهر من انقلاب البرهان، ما بدا غريبًا لحظتها، فالخطوة اتخذت في ظل حكم انقلابي يجثم على البلاد، إضافة إلى أن الخطوة تأخرت كثيرًا، إذ اعتمدت واشنطن أوراق السفير السوداني لديها منذ مايو/أيار 2020، فيما انتظرت كل هذه المدة حتى تعيّن سفيرًا لها.
وقد صادف تسمية غودفري مرشحًا لشغل منصب السفير في السودان مرور شهرين فقط من الكشف عن نشاط إرهابي في السودان في أكتوبر/تشرين الأول 2021، حينما داهمت الأجهزة الأمنية السودانية خلية إرهابية في حي “جبرة” وسط الخرطوم، راح ضحيتها ٧ من رجال الأمن السودانيين جراء تبادل إطلاق النار مع العناصر الإرهابية.
اتجاه الولايات المتحدة للإفصاح عن مرشحها لشغل منصب سفير في الخرطوم في ذلك الوقت بالتحديد، يفتح الباب للتكهن أن الغرض من الخطوة ربما جاء بدافع المخاوف الأمريكية التاريخية تجاه الإرهاب في السودان، وهي ذات المخاوف التي دفعت الولايات المتحدة في التسعينيات من القرن الماضي لقطع علاقتها مع السودان.
يُعضِّد هذا الافتراض سيرة سفير أمريكا المبعوث للخرطوم، التي يرتكز جزء كبير منها في مكافحة الإرهاب، إضافة إلى معرفة وخبرة طويلة في شؤون دول الشرق الأوسط والبلدان التي عملت كحاضنة أو مصدرة للإرهاب، فقد عمل غودفري بوصفه مبعوثًا خاصًا للولايات المتحدة في التحالف العالمي لمكافحة “داعش” إضافة إلى شغله مناصب دبلوماسية في كل من الرياض ودمشق وتركمانستان.
هذا بالإضافة إلى أن ابتعاث السفير يأتي في وقت تشهد فيه المنطقة والعالم صراعًا استقطابيًا حادًا بخصوص محاولة روسيا خلق خريطة جديدة في التحالفات الدولية خارطة متوازنة لا وصايا على الدول الضعيفة بل تبادل مصالح ، إذ تخشى الولايات المتحدة من تمدد روسيا في القارة الإفريقية، خصوصًا أن السودان، عبر عسكرييه، كان قد أبدى تعاونًا كبيرًا مع الجانب الروسي عبر ما كشفته التقارير من تعامل بين الطرفين في التعدين وتصدير الذهب السوداني إلى روسيا، بالإضافة إلى العمل في مجال الزراعة وتطوير البلاد وبالتالي تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين حتى يستفيد الطرفين من خيرات البلاد أحدهم بالخبرات والإمكانيات والأخر بالموارد.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.