ماذا يعني اعتراف بايدن بمذابح الأرمن بالنسبة للعلاقات الأمريكية التركية؟
أثار بايدن غضب كل أطياف المجتمع التركي، بما فيها القوى المعارضة الأساسية بعد توصيفه العنف الذي شهدته الإمبراطورية العثمانية خلال بداية القرن العشرين ضد الأرمن بالإبادة الجماعية، هذا القرار الذي تجنبه الرؤساء الأمريكيون لفترة طويلة، خوفاً من الإضرار بالعلاقة الأمريكية التركية.
هل تحدث أزمة جديدة في العلاقات الأمريكية التركية؟
أعلنت وزارة الخارجية التركية، مساء السبت، أنها استدعت السفير الأمريكي لدى أنقرة بشأن اعتراف الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن مذابح الأرمن في عام 1915 خلال حقبة السلطنة العثمانية تمثل إبادة جماعية، وقالت إنها نقلت للسفير “رد فعل قوياً” من جانب تركيا.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد رد بدوره على إعلان بايدن، حيث اتهم، في رسالة بعث بها إلى بطريرك الأرمن في إسطنبول، “أطرافاً ثالثة” بالتدخل في شؤون بلاده.
بدوره، قال وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو إن تركيا “لا تتلقى دروساً من أحد حول تاريخها”.
في المقابل، رحب رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان بالقرار التاريخي للرئيس الأمريكي معتبراً أنه “خطوة قوية جداً لصالح العدالة والحقيقة التاريخية”.
وأثار القرار تساؤلات حول هل يكون بداية أزمة جديدة في العلاقات الأمريكية التركية، وهل يؤشر إلى رغبة إدارة بايدن في التصعيد ضد أنقرة، خاصة أن بايدن سربت له تصريحات سلبية خلال حملته الانتخابية ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وبعد يوم واحد من قرار بايدن، صوتت لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الأوروبي، على وقف مفاوضات عضوية تركيا بالاتحاد الأوروبي رسميًا بمجمل أصوات 49 نائبا، وامتناع 14، ورفض أربعة.
وعد انتخابي وحديث هاتفي مع أردوغان
كان الرئيس الأمريكي قد وعد خلال حملته الانتخابية بالتحرك بشأن هذه المسألة، إضافة إلى صدور تلميحات سلبية أدلى بها بايدن خلال الانتخابات بشأن أردوغان.
ولكن الواقع أن العلاقات الأمريكية التركية لم تشهد توتراً كبيراً منذ تولي بايدن السلطة، بل على عكس المتوقع شهدت حديثاً عن محاولة لترميمها، وفي الوقت ذاته ظهرت أهمية تركيا البالغة بالنسبة للولايات المتحدة والغرب عامة في أول أزمة يواجهها بايدن بعد وصوله للبيت الأبيض، عندما قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توتير الأوضاع في أوكرانيا، رداً على اللغة الخشنة لبايدن والعقوبات الأمريكية على روسيا.
ففي مواجهة استمرار تأزم الملف النووي الإيراني، والنفوذ الروسي في ليبيا، وتصاعد التوتر مع روسيا في البحر الأسود وأوكرانيا، ورغبة الغرب في احتواء صعود الصين وروسيا، بدا للغرب بجناحيه الأوروبي والأمريكي أنه من الصعب الدخول في أزمة جديدة مع تركيا، اللاعب المهم في الشرق الأوسط والبحر المتوسط والبحر الأسود والقوقاز وشرق أوروبا، خاصة أنها إحدى دول الناتو القليلة التي بدت مستعدة لتحدي جبروت روسيا على الأرض حتى لو تفاوضات معها، كما ظهر في الحروب المحدودة الكثافة في القوقاز وسوريا وليبيا خلال عام 2020، والأهم أن في يد تركيا مفتاح البحر الأسود.
ولذا فإن الغرب بين نارين، نار محاولته الانصياع للتحريض الإعلامي ضد أردوغان ونار حاجته إليه.
ويمكن اعتبار أن قرار بايدن المتعلق بمذابح الأرمن محاولة لتحقيق التوازن بين هذا وذاك.
بدا أن الاعتراف تلبية لوعد بايدن الانتخابي، وإرضاء للتوجهات المعادية لتركيا في الغرب، إنه مكسب معنوي غير مكلف ضد تركيا، بالنسبة لبايدن سينال عليه الثناء من الدوائر المعادية لأنقرة والمؤيدة للأرمن.
وفي الوقت ذاته، فإن بايدن نفسه قال في ديباجة القرار: “الأمريكيون يكرمون جميع الأرمن الذين لقوا حتفهم في الإبادة التي وقعت قبل 106 أعوام من اليوم”. وأضاف: “نحن نؤكد التاريخ. لا نفعل ذلك لإلقاء اللوم على أحد وإنّما لضمان عدم تكرار ما حدث”.
كما أن بايدن حرص على أن يبلغ أردوغان بالقرار في أول اتصال هاتفي بينهما، معرباً في الوقت ذاته عن رغبته في “علاقة ثنائية بناءة مع توسيع مجالات التعاون والإدارة الفعالة للخلافات”.
الرد التركي
في المقابل، بدا الرد التركي أيضاً يشير إلى رغبة أنقرة في تجاوز الموقف وعدم تحويله إلى أزمة في العلاقات الأمريكية التركية المتوترة أصلاً، والتي يطمح الجانبان في تعافيها.
وقال بيان للرئاسة التركية إن بايدن وأردوغان اتفقا على “الطابع الاستراتيجي للعلاقة الثنائية وأهمية العمل معاً لبناء تعاون أكبر في القضايا ذات الاهتمام المشترك”.
وبينما تحدثت بعض المصادر، عن جملة خطوات أعدتها أنقرة للرد على الخطوات الأمريكية، “منها إغلاق قاعدة إنجرليك وكذلك فتح قنصلية تركية في مدينة شوشة التي استعادتها أذربيجان من أرمينيا في الحرب الأخيرة، بالإضافة إلى مقاطعة البضائع الأمريكية، وأخيراً فتح ملف تعويضات في المحاكم الدولية لدور أمريكي في انقلاب 15 يوليو/تموز الفاشل”.
فإن رد الفعل التركي الرسمي حتى الآن بدا واضحاً أنه يميل للوم المعنوي لواشنطن، طالما أن هذا القرار لن تكون له تبعات على أرض الواقع، ويمكن اللجوء لبعض الخيارات السابقة المشار إليها إذا تواصل التصعيد الأمريكي.
وفي هذا الإطار، وجهت تركيا انتقادات شديدة لقرار بايدن ، حيث وصفه وزير الخارجية تشاووش أوغلو بأن أساسه الوحيد هو الشعبوية.
وقالت الخارجية التركية إن بيان الولايات المتحدة هذا، الذي يشوه الحقائق التاريخية، لن يقبله ضمير الشعب التركي ويفتح جرحاً عميقًا يهز الثقة المتبادلة والصداقة بيننا.
ودعا بيان الخارجية التركية الرئيس الأمريكي إلى “تصحيح هذا الخطأ الجسيم الذي لم يخدم أي غرض سوى إرضاء بعض الدوائر السياسية التي تحاول خلق عداوة من التاريخ”.
واعتبرت الخارجية التركية البيان الذي أدلى به رئيس الولايات المتحدة، الذي لا يتمتع بالسلطة القانونية أو الأخلاقية للحكم على المسائل التاريخية، بأنه ليس له قيمة.
ورغم ذلك خلا البيان التركي من أي تلويح يؤدي إلى أي تأزم في العلاقات الأمريكية التركية، كما خلا البيان الأمريكي كذلك من أي توجه تصعيدي.
واللافت أن تركيا في ردها حاولت التأكيد على رغبتها في دراسة تاريخية علمية لهذه الأحداث، والتأكيد على ضرورة تحقيق التعايش بين شعوب المنطقة.
إذ دعا بيان الخارجية التركية لدعم الجهود المبذولة لتأسيس ممارسة للتعايش السلمي في المنطقة، وخاصة بين الشعبين التركي والأرميني.
ولفت البيان إلى أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ذكرت بوضوح الطبيعة المثيرة للجدل لأحداث عام 1915. من ناحية أخرى أعاد البيان للأذهان أن تركيا دعت عام 2005 إلى دراسة علمية لهذه الأحداث واقترحت تشكيل لجنة تاريخ مشتركة مع الجانب الأرميني.
هل تعود العلاقات إلى مجاريها؟
لا يعني هذا أن العلاقات بين البلدين ستصبح في أفضل حالاتها، فالموقف السلبي من السياسات الاستقلالية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أصبح راسخاً في الذهنية الغربية، ولكن ما حدث أن الغرب لديه منافسون أخطر وأكبر، كما أن الأزمات المختلفة بين تركيا والدول الغربية (ولاسيما الأوروبية) في الفترة الماضية، أثبتت أنه لا بديل عن التفاوض مع تركيا، التي لم تعد مجرد تابع مطيع على هامش الحضارة الغربية، يتبرأ من جذوره الإسلامية.
بل إن المقاربة التركية الجديدة، هي الفخر بتركيبتها التركية المسلمة، والتأكيد أنها تريد أن تكون شريكاً متساوياً في أوروبا والناتو، ويجب مراعاتها مصالحها وثقافتها.
نعم هذا لم يتحقق لتركيا بالكامل، وهو ما ظهر في قرار بايدن ووقف المفاوضات بشأن إنضمام تركيا للاتحاد الأوروبي (وهي المفاوضات التي كان يبدو أنها ستستمر للأبد)، ولكن الواقع أن سعي بايدن المعروف بخصومته الشخصية مع أردوغان للتهدئة وقبله سعي ماكرون للتهدئة مع تركيا بعد سجال شخصي نادر مع رئيسها، يشير إلى أن الغرب يقبل تدريجياً تغير المعادلة مع تركيا.
وهي معادلة سيسعى فيها الغرب لعرقلة طموح تركيا تارة، والتفاهم معها تارة أخرى، ولكن الأكيد فيها أن قوة العلاقة على أرض الواقع ستكون أكبر كثيراً مما يظهر في الإعلام والبيانات، والمجالس النيابية.