التمكين: ذلك المبدأ اللعين الذي أهلك الشعب المسكين
جاءت عصابة الاخوان المسلمين الرجعية الى السلطة في السودان عام 1989 ممثلة بالمخلوع عمر حسن البشير وزمرة الضباط والمشايخ الذين معه، وفور تمكنهم من السيطرة على السلطة تماما واقصاء أي مقاومة، باشروا بالسيطرة على مفاصل الدولة وفق لسياسة يتبعها الاسلاميون في كل مكان يسيطرون عليه، وهي سياسة يسمونها ب “التمكين” وتعني عملياً ادخال أفراد وأشخاص مناصرين لهم في كل مفاصل الدولة بكل مؤسساتها من اجل ضمان تبعية هذه المؤسسات لفكرهم ونظامهم الذي يقومون ببنائه، وهذا تماما ما فعل البشير وأعوانه.
ومصيبة السودان تكمن في أن هذه السياسة استمرت لمدة ثلاثين سنة، تحولت خلالها البلاد الى جحيم حقيقي تفشى فيه الكيزان والاخوان بشكل مخيف، ولكن بعد سقوط البشير في العام 2019 ظهرت مشكلة أخرى، وهي أن قطع رأس الأفعى لا يعني الانتهاء من كل المشكلات التي تجذرت على مدار العقود الثلاثة الماضية، فالكل كان يعلم أن للبشير الاف بل عشرات الاف المناصرين الذين يحتلون أماكن مفصلية في المؤسسات وبنية الدولة بكل سلطاتها، مما دفع القوى الثورية الى انشاء لجنة ازالة التمكين التي كان من المتوقع أن تعمل على ازالة العناصر الكيزانية في مفاصل الدولية وفقا لعملية جراحية دقيقة.
لكن مع الوقت تبين أن هذه اللجنة بدأت تعمل وفقاً لفكر المحاصصة والاقصاء والانتقام وبدأت بفصل الموظفين تعسفيا دون القيام بدراسة دقيقة، كما انها انشأت دون ان يكون لها أساس قانوني واضح، واختلط الأمر على الكثيرين بما يخص صلاحياتها التي كثيرا ما تصادمت مع صلاحيات الؤسسات الأخرى. أي أن فكرة انشاء اللجنة هي فكرة جيدة ونابعة من رغبة اصلاحية، لكن الخلل يكمن في أمرين: أولاً طريقة انشاء اللجنة والتسرع بالأمر مما جعل اللجنة ضعيفة من حيث المرجع القانوني الى جانب الضبابية في الصلاحيات، وثانياً العشوائية والغوغائية في عمل هذه اللجنة أو بعض أفرادها على الأقل من حيث العقلية الانتقامية التي جعلت عمل اللجنة يسوده التعميم الأعمى بحق العاملين في عدد من المؤسسات، وهذا ما دفع الكثيرين الى تقديم شكاوى ضد اللجنة ورفع دعاوى ضدها كما حصل مؤخرا مع لجنة المعلمين وقبلها من قبل موظفي المصارف.
ان الاخطاء المتكررة والمتراكمة التي ترتكبها لجنة ازالة التمكين تهدد مصداقية وشفافية العملية برمتها، وتلقي بظلال على الأداء الثوري، وتجعل المواطن السوداني يتخوف من أن هذه اللجنة والسلطة الانتقالية ككل تقوم بعملية استبدال تمكين بتمكين آخر ليس الا، ومما يزيد واقعية هذا الاستنتاج هو عدم حدوث أن تقدم لا على المستوى الاجتماعي ولا على المستوى الاقتصادي، فقد مر عامان على اسقاط البشير ولجنة ازالة التمكين تعمل طوال الوقت، وقامت بفصل الاف الموظفين واتباع النظام السابق، لكن لم يؤدي ذلك الى اي تحسن ملحوظ في عمل المؤسسات والحكومة بشكل عام. الى جانب كل ذلك ظهرت انتقادات حادة للجنة واتهامات بأنها في حقيقة الأمر تحولت الى أداة كيد سياسية بيد البرهان وحمدوك يستخدمهاها ضد خصومهما من أجل الاستمرار في السلطة، مما دفع بالبعض الى تشبيه سياسة هذه اللجنة بسياسة اجتثاث البعث في العراق الذي كانت نتيجتها دخول العراق في حرب أهلية ومشاكل اجتماعية خطيرة، وعليه يجب الحذر من هذه اللجنة وسياساتها وعلى القوى الثورية محاولة تصجيج مسار وعمل هذه اللجنة لكي لا تتحول من أداة للاصلاح الى أداة للتخريب.