أبرز الدول التي حوّلت جائحة كورونا الطبقة الوسطى فيها إلى الفقر
انهيار تاريخي تشهده الطبقة الوسطى في العالم بسبب الجائحة، وهو انهيار نجت منه بعض الدول بينما أصاب اقتصادات بعض البلدان التي كانت توصف بالواعدة ضرر كبير.
لبنان: الطبقة الوسطى تتلاشى
كانت الطبقة الوسطى في لبنان تمثل الغالبية من السكان، وكانت توصف بأنها الطبقة الوسطى الأكثر بهجة بالمنطقة العربية والتي رقصت في ذروة الحرب الأهلية.
لكن أزمات الاقتصاد والسياسة وتداعيات فيروس كورونا حولت أكثر من نصف السكان إلى فقراء، وبحسب بيانات صندوق النقد الدولي، فإن الناتج المحلي الذي وصل إلى 53 مليار دولار في 2019، يقدر أنه تراجع بشكل غير مسبوق إلى 18 مليار دولار بحلول نهاية 2020. ويبلغ سعر الدولار الواحد في السوق الموازية أكر من 11 ألف ليرة، مقابل 1515 ليرة في السوق الرسمية.
وأدى ذلك إلى صعود نسبة الفقر في المجتمع اللبناني لمستويات غير مسبوقة، وقال المشرف العام على خطة لبنان للاستجابة للأزمة في وزارة الشؤون الاجتماعية، عصام أبي علي في تصريح سابق لوكالة الأناضول، إن “نسبة الفقر تتجاوز 60%، أمّا نسبة اللبنانيين الذين يرزحون تحت خط الفقر المدقع فهم 25% في نهاية 2020″.
تقرير وكالة Bloomberg قدم أربعة قصص، من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وتايلاند، تكشف كيف تغيرت حياة أبناء الطبقة الوسطى في الاقتصادات الناشئة جراء الجائحة.
الهند: العودة للدراجة النارية
قضى “رافي كانت شارما” أكثر من عقد يجمع خلاله المدخرات لشراء سيارة من طراز ماروتي سوزوكي ألتو التي تبلغ قيمتها 6 آلاف دولار، وهي السيارة الأولى التي عادةً ما يشتريها عديد من الهنود عندما يبلغون حلم الانتقال من الدراجات النارية إلى السيارة ذات الأربع عجلات. وكان قد دخل إلى عام 2020 ومعه من المال ما يكفي لتسديد دفعة أولى من أقساط شراء السيارة وخطة للاحتفال بعيد زواجه القادم ومعه السيارة الجديدة. لكن الجائحة حلّت وأطاحت في طريقها بكل ذلك.
عندما خضع الاقتصاد الهندي للإغلاق، فقد شارما، البالغ من العمر 37 عاماً، وظيفته في قطاع هندسة السيارات. وحتى عندما تمكن من العثور على وظيفة جديدة، كانت في مدينة أخرى وبأجر أقل. جاءت هذه الخطوة على مدخراته وألغت حلمه في امتلاك السيارة. وأصبحت أسرته المكونة من 4 أفراد مضطرة إلى الاستمرار في اعتمادها على الدراجة النارية القديمة لمزيد من الوقت في المستقبل. ويقول شارما، من منزله الجديد في مدينة بهادورجاره الواقعة بالقرب من نيودلهي: “لقد استنفد هذا الانتقال كل مدخراتي، وأعاني بالفعل في سداد أقساط القروض الحالية”.
شارما يعد واحداً من المنتمين إلى الطبقة الوسطى الهندية، التي تشكل، حسب بعض التقديرات، ثلث سكان البلاد البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة. وكان النمو الاقتصادي للهند جذب موجات من الشركات متعددة الجنسيات العاملة في صناعة كل شيء، من السيارات إلى الهواتف المحمولة، وكذلك الشركات العملاقة في قطاعات البيع بالتجزئة والتجارة الإلكترونية، كلها جاءت لتأسيس مقرات وأعمال لها في البلاد. غير أن ذلك يعني أن أي ضربة تلحق بدخول الطبقة الوسطى في الهند سيكون لها عواقب يصل مداها إلى الاقتصاد العالمي.
وتأييداً لذلك، تقول ليلا فرنانديز، وهي أستاذة في العلوم السياسية، إن الجائحة كشفت عما تسميه “الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية” لأوضاع الطبقة الوسطى في الهند، وتشبهها ليلاً بـ”فقاعة سوق الأسهم التي ينتظرها الانفجار” في أي وقت.
الطبقة المتوسطة في الهند تقلّصت بمقدار 32 مليون شخص في عام 2020، وهي نسبة تشكل نحو 60% من حجم الانخفاض العالمي في عدد الأشخاص الذين يكسبون ما بين 10 و20 دولاراً في اليوم، وفقاً لتقديرات مركز “بيو” للأبحاث. ويبدو أن هذا التراجع هو الأكبر مما شهدته الهند منذ بدأت تحرير اقتصادها في عام 1991.
البرازيل: البيض بدلاً من اللحوم
لا تحب البرازيلية فرانسينيت ألفيس لحوم الأعضاء، الكلاوي واللسان والكبدة، لكن هذا ما باتت مضطرة إلى الاكتفاء به عندما تفكر في شراء اللحوم للمنزل من أحد المتاجر التي تبيع اللحوم بأسعار مخفضة في إحدى ضواحي برازيليا. على الأقل لن يكون العشاء عجة البيض مرة أخرى.
تعاني البرازيل تداعيات الاجتياح الشرس لفيروس كورونا، والذي لا يبدي حتى الآن أي علامة على التراجع، وقد بدأت العواقب الاقتصادية للأزمة تمتد إلى النظام الغذائي للبرازيليين من الطبقة المتوسطة.
وتبيّن البيانات الصادرة عن “كوناب” Conab، وكالة الزراعة الوطنية في البرازيل، أن سكان الدولة، التي تعد أكبر مصدِّرٍ للحوم البقر في العالم، باتوا مضطرين إلى أكل كميات أقل من هذه اللحوم. فقد تراجع نصيب الفرد من استهلاك اللحم البقري بنسبة 5%، ليصل إلى 29.3 كيلوغراماً في عام 2020، وهو أدنى مستوى له منذ عام 1996. وفي الوقت نفسه، ارتفع معدل استهلاك البيض بنسبة 3.8%، ليحطم رقماً غير مسبوق، بحسب بيانات رسمية.
مع ذلك، فإن ألفيس، التي تبلغ من العمر 58 عاماً، تعد نفسها محظوظةً لأنها لا تزال تحتفظ بوظيفتها سكرتيرةً في أحد المكاتب. وعلى الرغم من أن راتبها البالغ 5 آلاف ريال برازيلي (نحو 881 دولاراً) يفوق بكثير الحدَّ الذي يؤهلها للحصول على المعونات النقدية الطارئة التي تقدمها الحكومة منذ بداية الوباء، فإن راتبها الكبير لم يحمِها بالقدر الكافي كما قد يُتصور للوهلة الأولى، لا سيما مع الارتفاع المطّرد لأسعار المواد الغذائية بسبب مزيج ارتفاع أسعار السلع الغذائية وتراجع قيمة العملة.
في سوق الخضار، تقف فرانسينيت وتحاول البحث عما يمكن شراؤه بمبلغ 30 ريالاً، هو كل ما تملكه في جيبها، وقد ارتفع سعر كل شيء من التفاح إلى الطماطم. أما الآن، فتسترجع الأوضاع قبل الجائحة، وتقول: “في الماضي، كان 20 ريالاً مبلغاً كافياً لتغادر السوق ومعك الكثير من الأشياء”.
جنوب إفريقيا: العودة لمنزل الأسرة
في يناير/كانون الثاني 2020، كانت موسيما كجانيان تبتهج بخطوتها الجديدة في طريق الاستقلال المادي. فقد حصلت خريجة كلية إدارة الأعمال البالغة من العمر 26 عاماً على وظيفة بدوام كامل في غوهانسبرغ بجنوب إفريقيا، واستأجرت شقة مقابل 3600 راند جنوب إفريقي (244 دولاراً) تقع على بعد عدة مبان قليلة من مقر عملها الجديد، حتى تتمكن من توفير تكاليف التنقل والمواصلات.
لكن في أوائل شهر مارس/آذار من العام نفسه، سجّلت البلاد أول إصابة بفيروس كورونا، لتفرض الحكومة إغلاقاً صارماً أفضى إلى أفدح انكماش اقتصادي تشهده جنوب إفريقيا منذ قرن. وبحلول شهر يوليو/تموز، كان صاحب العمل، شركة Kganyane، التي تعد إحدى أكبر شركات بيع الملابس بالتجزئة في البلاد، تواجه شبح الإفلاس، لتُضطر إلى تسريح عدد من موظفيها. وبذلك انضمت موسيما إلى قائمة تشمل نحو 1.4 مليون جنوب إفريقي فقدوا وظائفهم العام الماضي، ما دفع معدل البطالة الرسمية إلى مستوى غير مسبوق بلغ نسبة 32.5%. وفي ظل افتقارها إلى دخل لتغطية فواتير الإيجار والمرافق العامة وعدم رغبتها في الإتيان على مدخراتها، سددت موسيما غرامة قدرها 271 دولاراً لكسر عقد الإيجار، وعادت إلى منزل عائلتها.
لا يزال إرث الفصل العنصري حاضراً بعد أكثر من ثلاثة عقود من إعلان نهايته الرسمية في البلاد عام 1994، وهو يبرز أشد ما يبرز في أوقات الصدمات الاقتصادية، حين تتفاقم معاناة المنتسبين إلى الأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا. وقد وجدت دراسة أجراها “المعهد العالمي لبحوث اقتصاديات التنمية” في عام 2018 أن 1 فقط من كل 4 جنوب إفريقيين يمكن اعتبارهم جزءاً من طبقة وسطى مستقرة أو طبقة نخبة اقتصادية. أما الأغلبية الباقية، فقد أوقعتهم الدراسة في شريحة الفقر المزمن أو الفقر العابر (الذين يختبرون الفقر في فترات معينة)، أو هؤلاء الذين أطلقت عليهم الدراسة “طبقة متوسطة هشة”.
تعمل موسيما الآن بلا كلل من أجل الصعود مرة أخرى، على الرغم من تشخيص إصابتها بفيروس كورونا. والتحقت الآن بوظيفة في شركة خدمات مالية بموجب عقد مؤقت. لكنها تعلّق آمال مستقبلها على الدخل الآخر الذي تحصل عليه من عملها الجانبي في بيع السجاد والأثاث، وأحياناً البيض. وأنفقت موسيما أيضاً ألف دولار من مدخراتها لبناء غرفة إضافية في الجزء الخلفي من منزل العائلة حتى تتمكن من التمتع ولو بدرجة من الاستقلال على الهامش.
تايلاند: الشرطة بدلا من السائحين
يادا برونبيترومبا، التي تبلغ من العمر 52 عاماً، وغيرها من بائعي المواد الغذائية الآخرين على امتداد شارع خاوسان الشهير في وسط العاصمة التايلاندية بانكوك، هم من بين هؤلاء الذين شعروا على الفور بآثار الإغلاق شبه التام لرحلات السفر الدولي بفعل الجائحة، فقد فقدوا أكثر من ثلاثة أرباع عملائهم الذين كان أغلبهم من السياح.
تقول يادا: “قبل كل هذا، عندما بدأت في إنشاء متجري، كان لدي بالفعل صف من المشترين المنتظرين لعصير الفاكهة الذي أبيعه. وكنت أحصل على نسبة ربح تصل إلى 50% على كل شيء أبيعه”.
أما الآن، فإن يادا بالكاد تحصّل قوت يومها من المعونات الحكومية وكرات اللحم والعصير التي قد تبيعها في الليل. وتقول إن دخلها اليومي قد انخفض بأكثر من نسبة 90% منذ حلّت جائحة كورونا، ليصل إلى 700 بات تايلاندي (22.42 دولار) في اليوم.
بدأت يادا تفقد نمط حياة الطبقة المتوسطة خلال العام الماضي، وتخلفت خلال ذلك عن سداد الرهن العقاري لمنزلها الواقع في إحدى ضواحي بانكوك، كما عجزت عن سداد قرض السيارة. وهي الآن تعيش مع ابنتها البالغة من العمر 31 عاماً، وخمسة كلاب و12 قطة، في منزل تستأجره من مالك العقار الذي وافق على تمديد فترة سداد الرهن لها حتى يعود العمل إلى التحسن.
شكّلت السياحة خُمس الناتج المحلي الإجمالي لتايلاند قبل اجتياح الوباء، ما يعني أن هناك عجزاً ضخماً الآن في اقتصاد البلاد من المرجح أن يستغرق ملؤه عدة سنوات. وقد فشلت حتى الآن الجهود التي دعمتها الحكومة لإعادة الزوار الأثرياء عن طريق المنتجعات التي تتبع إجراءات صارمة للحد من انتشار كورونا، ومراكز الحجر الصحي التي أقامتها مطلةً على ملاعب الغولف. ويتوقع “البنك المركزي لتايلاند” نحو 3 ملايين زائر للبلاد هذا العام، وهو نصف عدد السياح الذي شهدته البلاد في عام 2020، وأقل من عُشر الرقم الذي وصل إلى 39.9 مليون زائر في عام 2019.
تقول يادا، التي باتت مضطرة الآن إلى بيع ساعات الرولكس المقلدة للسياح والاصطدام بالشرطة بين الحين والآخر، إنه قد بات لديها موقف جديد بشأن ما هو مهم حقاً في هذه الحياة. فهي تثمّن الحرية التي اكتشفتها حديثاً، مع تخلصها من الديون التي كانت تتكبدها لشراء وسائل الراحة المادية. وأضافت: “امتلاك سيارة أو منزل هو مجرد الأشياء التي يخبرنا المجتمع أنها تستحق التقدير، لكنها لا تحدد في واقع الأمر الطبقة الوسطى والانتماء إليها. فأنا الآن ليس لدي ما يمكن القول إنه أصول أو ممتلكات، لكني أشعر براحة البال”.