هل ينجح اتفاق جوبا في ظل تشابك المسارات؟
لم يعالج المشكلات الأساسية التي تعانيها الأقاليم كي يكون حجر الأساس لسلام دائم في السودان يعترض تنفيذ اتفاق جوبا للسلام الموقع عليه في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 2020 عقبات وصعوبات تتعلق بجذور ضاربة في عمق السياسة السودانية، وترسبات تعاطي نظم الحكم المختلفة مع القضايا التي تضمنتها المسارات المختلفة وهي، دارفور والشرق والوسط والنيل الأزرق وجنوب كردفان. وعلى الرغم من أن هذه المسارات تكاد تشمل السودان بأكمله، فإن التصنيف القبلي والإثني في بعض المسارات والجهوي في مسارات أخرى، أدى إلى إدارة الصراعات في هذه المناطق باستقطاب شديد وبتأثير من خارجها أحياناً. فقد ظلت الشكوى المرة من احتكار المركز للسلطة والثروة، أحد أكبر محركات الصراع، وهو ما عمّق تهميش المؤسسات المجتمعية والإدارات الأهلية. على هذه الأرضية وُقّع اتفاق جوبا على عجل، وواجهت آلية متابعة تنفيذه تعقيدات قائمة، وأخرى نشأت نتيجة لتداخل هذه المسارات. تواجه كلها تنفيذ الاتفاقية مع إحباط لأهل الأقاليم الذين اكتووا بنار الصراعات، ومخاوف المجتمع الدولي والداعمين للاتفاق من انهياره.
سمة سابقة
وجدت مفاوضات السلام بين الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية نفسها جزءاً من استراتيجيات التفاوض التي انتهجها النظام السابق مع معارضيه، إذ على الرغم من التوقيع النهائي، فإن ما على الأرض من نزاع وما يحيط به من مواجهات خطابية وتصريحات ومطالبات واحتجاجات، يشير إلى أن الاتفاق في ذاته هش وقد يقود إلى زوال، وهو سمة المفاوضات السابقة التي ارتبطت بمناطق النزاع في دارفور ومنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق منذ عهد النظام السابق. كانت السمة البارزة للمفاوضات (السودانية -السودانية) هي الانهيار البارز، ما عدا مفاوضات الحكومة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق لحل مشكلة جنوب السودان التي تسلسلت منذ اتفاق ميشاكوس عام 2002 ثم نيفاشا عام 2005 التي مهدت لانفصال الجنوب في عام 2011.اعتُبر هذا الاتفاق ناقصاً، إذ لم تنجح الحكومة الانتقالية باستقطاب كل الحركات المسلحة، فوقعت عليه مع الحكومة السودانية، الحركات الأربع لتحالف الجبهة الثورية وهي تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، والعدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، والشعبية لتحرير السودان جناح مالك عقار، وتجمع قوى تحرير السودان برئاسة عبدالله يحيى. إضافة إلى مسارات الشرق الذي وقّع عليه أسامة سعيد وخالد شاويش، والوسط الذي وقع عليه التوم هجو، والشمال الذي وقع عليه دهب إبراهيم دهب. بينما تخلفت عن التوقيع الحركة الشعبية لتحرير السودان جناح عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور.
تهميش جديد
ما يعيشه أهل هذه المسارات التي تشهد نزاعات ومنها دارفور والنيل الأزرق، من ظروف سياسية واقتصادية وأمنية، نبعت من تهميش هذه الأقاليم على مدى عقود طويلة من قِبل الحكومات الوطنية المختلفة ونظرة الحكومات المتعاقبة لهذه المناطق، خصوصاً النظام السابق، إذ وصمت خطابات الرئيس السابق عمر البشير نبرات الاستعلاء والتهديد والمواجهة الشاملة، وأدت إلى عدم الاهتمام بها، ما دمر بنيتها التحتية وفاقم من ازدياد مشكلات الانفلات الأمني والوعي السياسي فيها. وباستحواذ قادة هذه المسارات التي تنضوي تحت الجبهة الثورية على امتيازات السلطة واستثناء مسارات الشمال والوسط والشرق من هذه الامتيازات بحجة أنها لم تدر فيها حروب أهلية، أدى ذلك إلى خلق حالة تهميش سياسي جديدة، اُستُنفر بسببها أهل هذه المسارات ورفضوا ضم مساراتهم ضمن الجبهة الثورية وناهضوا الموقعين عليها من أقاليمهم. ومع اجتماع مسارات دارفور والنيل الأزرق داخل إطار الجبهة الثورية، وسعي كل منهما إلى تحقيق واستعراض مطالبه بتجاهل كل طرف للآخر، وما زاد الشقة بين هذه المسارات وغيرها، هي محاولات احتواء مسار الشرق ضمن الجبهة الثورية، ما أشعل الإقليم بنزاع إثني كان مكبوتاً في ما قبل.
آثار سالبة
لم تستفد الأطراف الموقعة على اتفاق جوبا من تاريخ المفاوضات السابقة وما أسفرت عنه من اتفاقيات، ولم تحاول بالتالي تلافي آثارها السالبة، كونها تمت في ظل صراع سياسي وعسكري بين النظام الحاكم والحركات المسلحة، والآن بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وإسقاطها نظاماً كان معادياً لهذه الحركات، لا تزال المفاوضات تجري على أرضية معسكرين مناوئين (حكومة ومعارضة)، مع حقيقة التأييد الوافر من الطرفين لبعضهما. وإن كانت مفاوضات حكومة “الإنقاذ” مع الحركات المسلحة تدور وفقاً لاستراتيجية إنهاك الخصم واستنزاف الوقت والجهد وتجزئة القضايا، فإن مفاوضات الحكومة الانتقالية نزعت إلى استراتيجية مفترق الطرق، فكانت ضحية التنازل عن القضايا الأساسية لأهالي هذه الأقاليم التي أصبحت عالقةً الآن في قضايا هامشية، وكسبت الحركات المسلحة مقاعد في السلطة دون نزع السلاح من قواتها أو حث الحكومة على المضي قدماً في تنفيذ بند الترتيبات الأمنية لدمجهم ضمن القوات المسلحة. وهذا الوضع يجعلها متأهبةً للخروج عن الاتفاق في أي وقت ترى أن الحكومة لا تلبي متطلباتها.
مضمون الصراع
تعترض تنفيذ اتفاقية جوبا، تحديات ضاربة في عمق السياسة السودانية وتعاطي نظامي الحكم السابق والحالي مع مشكلات هذه الأقاليم، ما خلق تشابكاً وخلطاً بين هذه المسارات. وإن كان النظام السابق يستخدم الجهوية كآلية لإدارة الصراع باستقطاب بعض الحركات وتأليب الأخرى، فإن الحكومة الحالية استقطبت مسارات الحركة الثورية ما ألب عليها مسارات الشرق والشمال والوسط. والبُعد المتداخل في قضايا هذه الأقاليم مع النظر إلى شدتها في منطقة وانخفاضها في أخرى، هو ما يتعلق بالبنية الاجتماعية التي يطغى فيها الولاء القبلي وهو الذي رسخ منطق النزاع داخل منظومة المجتمع، وبخلاف دارفور والنيل الأزرق، فإن الشرق أيضاً نموذج واضح لذلك، والاستثناء لإقليمي الشمال والوسط.