ماهي الخيارات الأمريكية للانتقام من التدخل الروسي؟
يبدو أن التدخل الروسي في الشؤون الداخلية للدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، يدفع بايدن للتفكير في ضرورة الرد، باعتبار أن الرد هو أفضل وسيلة لردع ووقف هذه الحروب الإلكترونية الروسية الخفية.
ولكن ما هي الخيارات أمام بايدن؟
الانتقام السيبراني
أحد الخيارات التي سبق طرحها على الرئيس الأمريكي باراك أوباما إثر التدخل الروسي في انتخابات عام 2016، كان الانتقام بوساطة هجوم إلكتروني مضاد.
في ذلك الوقت، قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما إن بلاده سوف ترد في المكان والزمان اللذين تختارهما على القرصنة الإلكترونية الروسية ضد الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
ولكن هذا التهديد لم ينفذ، وقد يكون ذلك بسبب طبيعة أوباما المترددة، إضافة إلى أنه فعلياً قد أصبح بطة عرجاء وقت هذا التهديد بعد الإعلان عن فوز ترامب، فضلاً عن كون الرئيس الجديد قد جاء بفضل التدخل الروسي، وكذلك حساسية وضع أوباما باعتبار أن الأمر سيبدو كانتقام لهزيمة الديمقراطية هيلاري كلينتون، خاصة في ظل تقليل الجمهوريين من تداعيات الهجوم الإلكتروني الروسي.
وقد يكون السبب في عدم الرد الأمريكي أيضاً الطابع البيروقراطي الحذر الذي ميز إدارة أوباما ومكتب التحقيقات الفيدرالية ورئيسه في ذلك الوقت جيمس كومي الذي أقاله ترامب بعد ذلك بسبب إصراره على الاستمرار في التحقيق بالتدخل الروسي (يبدو أنه حاول القيام بالعمل الصحيح بعد فوات الأوان).
أمريكا شنت أشهر هجوم إلكتروني معروف حتى الآن
والولايات المتحدة يفترض أن لديها أعلى قدرات في العالم في مجال الحرب الإلكترونية، ولديها وكالة متخصصة في هذا الأمر هي وكالة الأمن القومي الأمريكية التي يقال إنها تمتلك قدرات مذهلة في التجسس والحروب الإلكترونية.
وسبق أن استخدمت أمريكا أدوات الحرب الإلكترونية ضد العراق وصربيا.
بل إن إدارة أوباما نفذت أشهر عملية في تاريخ الحرب الإلكترونية معروفة حتى اليوم، من خلال استخدام سلاح سيبراني يسمى ستوكسنت (Stuxnet) لتخريب معدات نووية إيرانية، عبر استخدام فيروس لتشغيل أجهزة الطرد المركزي رغماً عن الإيرانيين (ودون معرفتهم لبعض الوقت) بطريقة أضرت ببرنامجهم النووي، وتسببت في تأخير عمليات تخصيب اليورانيوم.
وهي العملية التي تحدث عنها تأليف: الكاتب الأمريكي فرد كابلان في كتابه، “المنطقة المعتمة.. التاريخ السري للحرب السيبرانية”.
قياساً على ذلك، يمكن للولايات المتحدة تنفيذ هجمات إلكترونية تلحق الضرر ببرمجيات البنية الأساسية الروسية.
ولكن يجب ملاحظة أن التفوق الأمريكي في هذا المجال بدأ يتضاءل والفجوة بين واشنطن ومنافسيها الأقل مثل إيران وكوريا الشمالية قد تراجعت، فما بالك بروسيا التي تعتبر من أكثر الدول تقدماً في هذا المجال (المبرمجون والقراصنة الروس مشهورون بعبقريتهم).
والأهم أن روسيا استثمرت في مجال الحرب الإلكترونية بشكل كبير، في ظل عجزها في التفوق على واشنطن في النواحي العسكرية، وهي الدولة التي أخذت الحرب الإلكترونية والدعائية إلى مستوى غير مسبوق.
كما أن من شأن انتقام إلكتروني أمريكي قوي أكثر مما ينبغي أن يثير رد فعل روسياً، يفتح الباب لحرب إلكترونية واسعة النطاق تلحق الضرر بالبلدين.
كما أنه يعتقد أن الطبيعة الأمنية للدولة الروسية الأكثر انغلاقاً من أمريكا، قد تجعل الأخيرة أكثر تضرراً من أي حرب إلكترونية مع روسيا.
ما هو أسوأ أن تسبب الحرب الإلكترونية بين البلدين في ضرر مادي يؤدي إلى انتقال الصراع من الواقع الافتراضي إلى أي مستوى من مستويات الواقع الحقيقي.
العقوبات.. روسيا قادرة على تحملها
تظل العقوبات خيار أمريكا المفضل، ولكن المشكلة أنه تحديداً مع روسيا، فإنه العقوبات لن يكون تأثيرها كبيراً.
فقد خلق بوتين اقتصاداً محافظاً لا يميل لتحقيق نمو عالٍ، ولكنه قادر على تحمل الأزمات، وذلك عبر احتفاظ البلاد باحتياطات مالية تعتبر ضخمة جداً بالمقارنة بحجم الاقتصاد الروسي.
والدليل على ذلك أن السندات الروسية لديها أسعار فائدة جيدة رغم تراكم العقوبات الغربية خلال السنوات الماضية، ورغم تراجع أسعار النفط التي هي المصدر الرئيسي لدخل البلاد.
بل إن روسيا رغم أن عدد سكانها يقارب خمس أضعاف السعودية، تستطيع ميزانيتها تحمل أسعار نفط منخفضة عن الرياض، إذ نجحت روسيا في عهد بوتين في خلق اقتصاد يتكيف مع تراجع موارد النفط والعقوبات الغربية.
كما أن التقارب الروسي الصيني في المجالات الاقتصادية، وصادرات الأسلحة الروسية لبكين، من شأنها تخفيف تأثير أي عقوبات أمريكية مفترضة، في ظل أن الصين أيضاً تعاني من عقوبات أمريكية.
محاصرة النفط والغاز الروسي في أسواقه الكبرى
إحدى النقاط التي يمكن أن تؤثر على روسيا بشدة هي محاصرة النفط والغاز الروسي في أسواقه الكبرى، وهو أوروبا.
ولكن هذا الخيار يقف أمامه عراقيل عدة منها أن الغاز الروسي يصل أوروبا بشبكات أنابيب تجعل الارتباط بين الجانبين الروسي والأوروبي طويل الأمد، خاصة في ضوء تنافسية سعر الغاز الروسي.
كما أن الأوروبيين رغم شكواهم الدائمة من موسكو لم يبدوا أي رغبة في الابتعاد عنها، بل هم منقسمون في تقييم مدى خطورتها، حيث يريد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التقارب معها، مع تنصيب تركيا خصماً لأوروبا (مدعوماً بموقف يوناني مشابه).
أما ألمانيا التي تشعر بوطأة الخطر الروسي أكثر من فرنسا، فإن مستشارتها أنجيلا ميركل لا تريد ترجمة مخاوف ألمانيا من روسيا إلى عمل واقعي خوفاً من التورط في توتر سياسي وعسكري خطير، أو حتى تأثر الازدهار الاقتصادي الألماني التي تحقق في عهدها.
ومن هنا رفضت ميركل وقف خط السيل الشمالي الذي يربط الغاز الروسي بأوروبا عبر ألمانيا، رغم التهديد بعقوبات أمريكية على الشركات المشاركة فيه.
وقبل ذلك رفضت ميركل تسليح أوكرانيا أمام الاعتداءات الروسية التي انتهت بالاستيلاء على القرم.
جربت ميركل شخصياً مغامرات بوتين عندما قام بتخويفها ذات مرة بكلبه لأنها يعلم أنها لديها عقدة منذ الطفولة من الكلاب.
ولكن تشعر بأن مواجهة هذه المغامرات بتصعيد سياسي وأمني واقتصادي، لن يكون مُضراً فقط باقتصاد ألمانيا التي تعتمد على إمدادات الطاقة الروسية، ولكن أي تصعيد روسي مقابل، ليس لدى ألمانيا ولا أوروبا قدرة على مواجهته وحدهما، في وقت لا يمكن ضمان النجدة الأمريكية التي سبق أن خذلت أوكرانيا.
كما أن التوجهات الانعزالية الأمريكية التي عبر عنها ترامب والتي تطالب بتحمل أوروبا لمسؤولية حماية نفسها وأن تركز واشنطن على الخطر الصيني، قد ترسخت في الوجدان الاستراتيجي الأمريكي، وهذا قد يعني أنه في حال حدوث أزمة حقيقية لا يمكن ضمان الدعم الأمريكي.
إعادة بناء التحالفات الأمريكية لاحتواء روسيا
إلى جانب كل الخيارات السابقة، فإن هناك خياراً تتجاهله أمريكا، رغم أنها بدأت تطبقه على استحياء في آسيا في مواجهة الصين، وطبقته خلال الحرب الباردة، وهو تقوية البلدان التي تعتبر منافساً تقليدياً مع روسيا وتقوية التحالف معها.
وأسست أمريكا مؤخراً مجموعة كواد (الرباعية) لاحتواء الصين، عبر تعزيز قوة جيران بكين الكبار اليابان والهند وأستراليا دون دفعهم للدخول في مواجهة معها.
يمكن أن تكرر إدارة بايدن ذلك مع دول مثل تركيا التي هي منافس تاريخي لروسيا، ولكن سياسات أمريكا وأوروبا جعلت البلدين صديقين.
ولكن هذا لا يجب أن يتم بمحاولة إعادة سياسة الإملاء على تركيا (وتخييرها بين واشنطن وموسكو) بقدر ما يجب أن يتم عن طريق تقويتها عسكرياً واقتصادياً لأن ذلك من شأنه أن يقرب تركيا للغرب، وأن تتنافس مع روسيا بحكم طبائع الأمور بين البلدين.
تمثل أوكرانيا التي تركها الغرب فريسة للروس مرشحاً طبيعياً لهذه السياسية أيضاً، وهي أحوج إليها من تركيا، كما أن كييف رغم كل مشكلاتها لديها إمكانيات كامنة لتصبح حائط صد التوسع الروسي عبر عدد سكان ليس قليل نسبياً (نحو 41 مليون نسمة) وصناعات عسكرية لديها إمكانيات كبيرة (حتى لو ترهلت) كافية لتسليح الجيش الأوكراني، واقتصاد رغم كل أزماته لديه بنية صناعية كبيرة، ومستوى علمي راقٍ وأراضٍ زراعية وفيرة (أوكرانيا كانت سلة قمح الاتحاد السوفييتي).