قحت تخيب امال الثوار


الصحفي محمد الاقرع..

ـ على نحو متوقع، لم تخيب “قحت” ظن قوى الثورة في المضي قدماً نحو تسوية سياسية جديدة تعيد الأوضاع إلى ما هو أسوء من ذي قبل ـ أبان حكمها السابق ـ وتمنح قادة الانقلاب بوليصة جديدة للبقاء وحصانة من المحاسبة وتشتت القوى الفاعلة في الشارع وتحاول قطع طريق التغيير.

ـ إجتهد مناصرو التسوية وصبيتها الجدد في الترويج بأن الشارع فقد أدواته على إحداث الإسقاط المنشود وأن الاتفاق هو عملية مرحلية لإنهاء الانقلاب تليها خطوات أخرى من الداخل لإحداث التحول وتفكيك بنية النظام العسكري وسلطة النظام المباد، على الرغم من أن النظر إلى “كوب” هذه التسوية المتوقعة دون إطال يؤكد أنه فارغ تماماً بل ويتعريه الإتساخ.

ـ بدأت “قحت” هذه الطريق بالتدليس وعدم الشفافية، عبر اصطكاك مصطلح “العملية السياسية” واستخدامه بديلاً للتسوية علماً بأن الثورة نفسها والحراك الدائر في الشارع هو كذلك يقع تحت تصنيف العملية السياسية فالساحة عموماً تدور فيها عمليتين أساسيتين “عسكرية أو سياسية”، الركون لهذا المصطلح ليس له سبب سوى أنهم يريدون التدليس على الجماهير ومن ثم تقديم نصر زائف.

  • وفي سياق هذه النصر الزائف، حاولت “قحت” أمس تصدير خبر بأنها رفضت الجلوس إلى تحالف الكتلة الديمقراطية لاصطحاب عناصر انقلابية غير مرغوب فيهم “أردالة”، رغم أن الوقائع القادمة ستثبت وجودهم ضمن التسوية الجارية وأن هذا الاعتراض مجرد دعاية لاستمالة الشارع وحتى لحظة كتابة هذه السطور مناديب “قحت” مازالوا يتوافدون إلى منزل “مناوي” بالخرطوم لإقناعه بالتوقيع، لكن تبقى أن الإشارة المثيرة للإشمزاز أن ذات الحرية والتغيير قبلت بالجلوس مع “البرهان” نفسه وتوصلت معه لتفاهمات ومع القوى التي سقطت مع نظام البشير فما المانع إذا من مقابلة (الأردالة) وغيرهم ..؟!.

ـ قطاع كبير من مناصري التسوية يرون أنها ستبعد جبريل وأردول وهو أيضا تصور عاجز فأنت لا يمكن أن تفترض أن النصر في القضاء على الظل وترك جسده ورأسه الذي هو شريك لك، هذه التسوية سوف تشمل جبريل وبل والتوم هجو وتؤسس لمعادلة مليئة بالتناقضات.

ـ الوقائع تشير إلى أن “قحت” وصلت إلى اتفاق كامل مع قادة الانقلاب لكنها تريد تجزئته بدعاوى تخدير الشارع والاشراك الجنائي عبر توسيع أكبر قدر من القوى التي تتبنى الحراك الثوري وتوقيعه معها على جريمة الحصانات والقضايا الأخرى التي لا تريد السير فيها وحدها.

ـ حين طرح الثوار في الشارع شعار “العدالة أولاً” كان الهدف معلوم ومفهوم، أن هذه البلاد وعلى طول تاريخها كانت تدخل في تسويات وتجارب مشابهة الأولوية لا تكون لقضية العدالة وعدم الافلات من العقاب الأمر الذي بدوره يعيد انتاج ذات المشاهد ويضع الجميع في حال دوران داخل الحلقة “الشريرة”، العدالة أولاً هي المفتاح لدخول إلى فضاء جديد وتبني مشروع وطني والقيام بتسوية تأسيسية تاريخية، لكن “قحت” تريد أنتاج ما قد سبق، بتأجيل قضية العدالة وتمييعها ومنح القتل حصانات.

ـ قد يقول قائل أن الأزمة الآن تهدد وجود البلاد على الخريطة وأن الأسلم هو تبني طريق تسوية يلحق ما تبقى ويرتب الأولويات، وفي الأخيرة لا إفلات من العقاب كما حدث لقادة انقلاب الانقاذ!!، المستخدم لذات الصيغة الترويجية أيضا تغافل عن النظرة التاريخية القريب بأن كل هذه الأوضاع التي نعيشها الآن سببها التسويات الرخوة على مرة العقود، هذا الاتجاه يمضي بنا إلى نقطة تسويقية مشابهة بأن هؤلاء العسكر لديهم سلاح وهم لن يستجيبوا لأي حراك في الشارع يطالب بتقديمهم للمحاكمات ويقتص منهم، هذا التحليل بالتوالي هو نابع من ترويج آخر بأن العسكر يخشون المحاسبة هو بالتأكيد تصور غير سليمة يتجاهل الطموح والرغبة البائنة لدى الانقلابيين في الحكم، لكن على العموم وبمسايرة هذه المنطق يطل سؤال الضمانات ومدى قدرة “قحت” إلى كبح جماح العسكر وإقناعهم بعدم الاستيلاء على السلطة بشكل كامل مجدداً ..؟.

ـ بعض داعمي التسوية يرون أنها ستوقف قتل المتظاهرين وتحقن الدماء وهو أيضا تبرير تم تداوله أبان التسوية الأولى وإتفاق حمدوك، ورغم طيب النية إلا أن ذلك أمر يحتاج إلى توضيح فأن الشباب الذين نزفوا الدم فعلوا ذلك من أجل مطالب محددة فهل تحقق ..؟ إن كان الموضوع هو حقن الدماء لما كانوا في الأساس خرجوا كان الأفضل أن يستكينوا منذ عهد البشير لكنهم قرروا الخروج وفقاً لقضية وشعار الحرية والسلام والعدالة الذي لا تحقق هذه التسوية، وأنه من الغباء أن تبيع القضية وتبيع الدم تحت هذه اللافتة أو كما قال الكاتب راشد عبدالقادر.

ـ من يتوقع أن هذه التسوية قادرة على حقن دماء الشباب السوداني فهو أيضا لا ينظر إلى التاريخ القريب، فقتل الشباب لم يتوقف أبان حكومة “قحت” الأولى والثانية، إستشهد الطبيب عثمان والثائر مدثر وعضو مقاومة الأبرز “ودعكر” وغيرهم، هذه التسوية قد تكون مطية لاستخدام عنف أكبر لتصفية حركة الشارع، بعد تجريمه وشيطنته بواسطة صبية التسوية الجدد.

ـ يقول قائل كذلك أن هذه التسوية أنها لا تعني عودة الشراكة وهو أمر أيضاً فيه الكثير من التضليل، لأن علم العقود يشير إلى أن عقد الشراكة هو عبارة عن تفريغ ما تم الاتفاق عليه من التزامات في شكل قانوني يكون أطرافه شخصين أو أكثر سواء كان شخصاً طبيعاً أو معنوية، بالتالي فأن الشراكة مرتبطة بوجود الأطراف ليس بما حوى الاتفاق، وعليه ما دام قادة الانقلاب يوقعون في الاتفاق فهم بالتأكيد أطراف وشركاء في الفترة الانتقالية، هل تستطيع “قحت” في تسويتها إبعاد العسكر من التوقيع على أي الوثيقة ..؟.

ـ مروجو التسوية يعتمدون في خطابهم على أنها المخرج الوحيد الواقعي والواضح الذي يستصحب معه كل التعقيدات والظروف الإستثنائية، وأن خيار الشارع المجرب والذي اسقط “عبود ونميري والبشير” وأفشل الانقلاب غير قادر على تحقيق نصر، هذه الاعتقاد يفتقر إلى التعمق في جوهر الأزمة وغاية الثورة التي لا يرغب المنخرطين فيها إلى اصطحاب التعقيدات القديمة وإنما حلها جذرياً ومن ثم الانطلاق في براح السودان الجديد، هذه المسكنات دائما ما تفضي إلى نفس النتائج.

ـ هذه التسوية المرتقبة وأطرافها المتعددة والمتناقضة في نفس الوقت، ستدخل البلاد في نفق جديد شبيه بما يحدث في دولة لبنان والاتفاق العرفي المتوارث في توزيع السلطة على أساس طائفي، فقط في السودان سيتم توزيعها على أساس جهوي وبين تحالفات وحركات منبتة، وكلما حاولوا السودانيون لاحقاً التغيير سيتصدمون مع معطيات هذه المعادلة، وفي حقيقة الأمر أن هذه التسوية هي الخطوة ثانية في هذا الطريق فقد كانت إتفاقية سلام جوبا التي استند على المسارات سابقة لها.

ـ في السياق كذلك يتحدثون بأن التسوية تقطع الطريق لعودة النظام البائد يقولون أيضا أنها ستحاول إصلاح الأوضاع المعيشية وإنقاذ الاقتصاد وجميعها أحلام تكذبها التوقعات، لماذا؟، لأنك إذا لم تغيير المعطيات لا يمكن أن تنتظر نتائج جديدة وطالما أننا ندور في نفس المعادلة التي تمثل أطرافها العسكر الانقلابيين و”قحت” بهيكلها الهشة بالإضافة إلى القوى التي سقطت مع النظام البائد فأن النتائج ستكون معروفة من خلال المقارنة القريب للأوضاع والتي ستقود إلى تخريب الانتقال وتمييع قضية العدالة ومن ثم عودة هتاف “هبوا” وانقلاب عسكري جديد أخر المطاف، هي دورة مكشوف تماماً، وعلى عناصر “قحت” إلا يتعللون بفشلهم المتوقع في نهاية المطاف بأن قوى الشارع كانت تترصدهم ولم تتركهم يعملون كما حاولوا تسويق مثل هكذا تبريرات في فشلهم السابق.

ـ الأخطر في هذه التسوية أن الفاعل الأكبر فيها هي القوى الاقليمية والتي دون شك ستخضع كل العوامل والمعطيات في معادلة الوضع الذي سيخلفه هذه الاتفاق لتمرير مصالحها إستناداً على تناقضات الأطراف.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.