هكذا أنقذت حرب غزة القضية الفلسطينية بعد أن كانت مهددة بالدفن
بدا الفلسطينيون مستسلمين لمصيرهم الذي تسعى إليه استراتيجية نتنياهو في دفن القضية الفلسطينية، والذي وصل لذروة مأساويته، في صفقة القرن التي وضعها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي تسلم القدس لإسرائيل على طبق من فضة وبرضا المطبعين العرب.
وحتى عندما خرج ترامب من البيت الأبيض، بدا أن الدوائر السياسية الدولية والعربية المعنية تقليدياً بالقضية الفلسطينية أصبحت غير مكترثة بها، فيما كل مكون من مكونات الشعب الفلسطيني مشغول بشؤونه الخاصة.
ولكن هبة المقدسيين وعرب 48 دفاعاً عن الأقصى ورفضاً لطرد سكان الشيخ جراح، ثم تدخل حركات المقاومة في غزة عبر التحذير من اقتحام الأقصى، وإطلاق الصواريخ على القدس، وضع إسرائيل ورئيس وزرائها بنامين نتنياهو في مأزق، وأثبت قصور استراتيجية دفن القضية.
لكن ما هو واضح بشكلٍ مؤلم بالفعل هو أنه حتى عندما تنحسر الحرب الحالية، ستظل نهاية اللعبة بعيدة المنال، وبينما يفقد المدنيون حياتهم، ستظل المشكلات الأساسية قائمةً وسيزداد الصراع عمقاً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Telegraph البريطانية.
هدف إسرائيل من الحرب
يصرُّ كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين في إسرائيل على أن الهدف من الهجوم الحالي على غزة هو تحقيق “هدوءٍ طويل الأمد”، كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس.
وفي الوقت الحالي، يبدو أن القادة الإسرائيليين يأملون في الوصول إلى هذا الهدف من خلال الاستخدام الحصري للقوة.
كانت إسرائيل تتجنَّب وقف إطلاق النار، لأنها تقول إنها تحتاج إلى وقتٍ لتنفيذ أكبر عددٍ ممكنٍ من الضربات الجوية من أجل إعاقة قدرات حماس واستعادة قوة الردع الإسرائيلية.
الردع الإسرائيلي لم يتحقق في الحروب السابقة
ومع ذلك، تشير أربع مواجهاتٍ رئيسية خلال السنوات التسع الماضية إلى حدود هذا الردع، وأن حركات المقاومة ازدادت قوة رغم ضراوة القصف الإسرائيلي.
بدأت حماس عام 1987 وتحول جناحها العسكري كتائب عز الدين القسام من منظمة صغيرة تركز على الأعمال الأمنية الخاطفة، لحالة أشبه بجيش صغير يطور أسلحته الخاصة، ويتدرب طول فترات الهدنة، ليقاتل في حرب عصابات تلائم طبيعة غزة المزدحمة، وقادر على منع الاحتلال من البقاء، لدرجة أنه نفذ عملية كوماندوز بحرية في حرب عام 2014.
واستراتيجيات اغتيال قيادات حركات المقاومة التي اتبعتها إسرائيل لم تضعفها، على مدار السنوات الماضية.
ولا أحد في القيادة الإسرائيلية يعبِّر عن هدف السلام مع الفلسطينيين، ولم يعبِّر أحدٌ منهم عن ذلك منذ وقتٍ ليس قليلاً.
في المقابل، يبدو أن القادة الإسرائيليين يسعون من التصعيد، حسب زعمهم، للحصول على فترةٍ طويلةٍ من الهدوء النسبي حتى الجولة التالية من الحرب، وذلك عبر افتراض أن إلحاق أكبر أذى ممكن بقطاع غزة وحركات المقاومة سيردعها عن إشعال صراع قريب.
فهم يعتبرون ضمنياً أنه ستكون هناك حربٌ قادمة. وتصف القيادة الإسرائيلية ما تفعله في غزة الآن بـ”جزِّ العشب”، وهي تعلم أنه سينمو مرةً أخرى بعد فترةٍ طويلة.
عهد الاحتلال الرخيص قد ولّى
يتجاهل الإسرائيليون هنا أن الأسباب الكامنة وراء الغضب الفلسطيني الذي يشعل المقاومة، من الحصار على غزة للاستيطان، إلى محاولات تهويد القدس، وغيرها من ثوابت القضية الفلسطينية التي تواصل تل أبيب انتهاكها.
وتشير الأحداث التي وقعت خلال الأيام الأخيرة إلى أن صانعي السياسات يبدون الآن غير قادرين على تحقيق حتى الهدف الأدنى الذي يتبنونه، وهو الهدوء طويل الأمد، ليس فقط في غزة بل أيضاً في القدس الشرقية المحتلة والضفة الغربية وفي الداخل.
شهدت الأيام القليلة الماضية إطلاق صواريخ من غزة على نطاقٍ واسع، واحتجاجاتٍ شعبية، بالإضافة إلى مواجهات بين الفلسطينيين واليهود، وكلُّ ذلك يحدث في وقتٍ واحد.
يقوِّض هذا الوضع المفهوم القائل بأن إسرائيل تستطيع، دون أيِّ تكلفةٍ على نفسها، الاستمرار في كونها قوة محتلة، والانخراط في تمييزٍ منهجي ضد الفلسطينيين بدعمٍ من المجتمع الدولي.
ومع استمرارها في هذا المسار، يبدو أن القادة الإسرائيليين يُقِرون ضمنياً أنه في حين أن إسرائيل قد لا تحقِّق نصراً حاسماً في غزة، فإن الحفاظ على الوضع الراهن أفضل من أيِّ بديل، حتى لو استلزم الأمر حرباً كلَّ بضع سنين. لكن الأمر المختلف هذه المرة هو أن الحرب لم تعد مقتصرةً على قتال حماس في غزة.
فشل استراتيجية دفن القضية الفلسطينية
إن ما كُشِفَ الأسبوع الماضي يشير إلى أن استراتيجية إسرائيل لتحقيق هدوءٍ طويل الأمد هي استراتيجية غير ناجحة، ليس فقط مع حماس في غزة، ولكن بشأن “القضية الفلسطينية” بشكلٍ عام.
نحن نشهد الفشل النهائي للقوة الإسرائيلية في السيطرة على شعبٍ من خلال تفتيته وقمعه. منذ اغتيال إسحق رابين وفشل اتفاقات أوسلو، كانت السياسة التي اختارتها إسرائيل هي إدارة الصراع بدلاً من حله.
وكان بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، قادراً إلى حدٍّ كبير على دفن القضية الفلسطينية، بشكلٍ رئيسي ليس من خلال الاستخدام الصريح للقوة، ولكن من خلال القنوات الدبلوماسية والسياسية والعلاقات العامة والحرب الإعلامية (أي الحرب على حركة مقاطعة إسرائيل وكذلك حرية التعبير)، كلَّما أمكن ذلك.
ووصل هذا النهج ذروته في رئاسة ترامب واتفاقات أبراهام، التي أجازت تطبيع الاحتلال العسكرية، والاستيلاء على الأراضي بالقوة، والإلحاق الفعلي للأراضي.
ومع ذلك، فإن الفلسطينيين الآن ينتفضون في كلِّ مكان. خلال الأسابيع الأخيرة، وجدت الحكومة الإسرائيلية نفسها تمارس قوةً أوضح على العديد من الجبهات مرةً أخرى، ليس فقط القصف على غزة، ولكن من خلال مداهمة المسجد الأقصى، وقمع الاحتجاجات السلمية ضد عمليات الطرد القسري في حيِّ الشيخ جراح في القدس الشرقية، وإرسال وحداتٍ من شرطة الحدود إلى التجمُّعات الفلسطينية في الداخل الإسرائيلي.
إن غياب استراتيجية فعَّالة لهو أمرٌ واضح للغاية، حسب الصحيفة البريطانية.
إذا كانت إسرائيل تريد حقاً هدوءاً طويل المدى بعيداً عن السلام الشامل، فعليها أن تسعى إلى تهدئة التوتُّرات ومعالجة القضايا القابلة للحل من خلال الوسائل السياسية والدبلوماسية.
يمكن لإسرائيل، على سبيل المثال، أن تضع حداً أدنى من المطالب بأن تنهي حماس والجماعات الأخرى في غزة إطلاق الصواريخ، بينما تتفق على طرقٍ لإنهاء الحصار تدريجياً على غزة، والمساعدة في إخراجها من حالتها الدائمة على شفا الانهيار، الأمر الذي يدفع الناس في غزة إلى مزيدٍ من اليأس.
كما أصبح من الواضح أن القدس في قلب المعادلة الجديدة التي أشعلتها حرب غزة وقبلها هبة المقدسيين وعرب 48، وبات وقف الانتهاكات في الأقصى وحي الشيخ جراح من ضمن الشروط التي أصرت عليها المقاومة الفلسطينية لإبرام هدنة.
فلقد انتفض المصلون في الأقصى من أجل حي الشيخ جراح، وانتفض عرب 48 من أجل الأقصى، ثم قصفت حماس القدس، لكي تفشل مسيرة المستوطنين لاقتحام الأقصى، وثارت الضفة الغربية من أجل غزة، والآن فلسطينيو الشتات ممثلين في اللاجئين بلبنان يخرقون هدوء الجبهة الشمالية لإسرائيل برشقات شاردة من الصواريخ.
لقد أعادت هبة المقدسيين وعرب 48 وحركات المقاومة ربط ما جزأته اتفاقيات “أوسلو”، حسب وصف الكاتبة رزق في موقع الميادين، كما أثبتت حدود القوة الإسرائيلية.
يمكن لإسرائيل دائماً التراجع عن القوة العسكرية إذا لزم الأمر، وأثبتت تجربة المرحلة الماضية أنها يجب أن تبحث عن وسائل بديلة لانتزاع التنازلات ومنحها، وفي هذه الحالة ربما يمكنها البدء في شقِّ طريقٍ للخروج من دائرة العنف القاتلة التي وضعت المنطقة فيها.