هدوء مخادع وهدنة هشة.. هل تعود الأوضاع للانفجار في غزة؟
ها هي قد انتهت عمليات القصف والصواريخ الآن، لكن المظالم التي أشعلت انتفاضة الفلسطينيين من رام الله إلى القدس وحيفا -وصولاً إلى بيروت وعمّان- ما تزال قائمة، رغم إعلان الهدنة في غزة.
فلن يُقرّب وقف إطلاق النار الفلسطينيين والإسرائيليين من الوصول إلى تسوية، بل الطرفان أبعد ما يكون عن ذلك، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
إسرائيل لم توقف ممارستها بعد الهدنة في غزة
رغم احتفاء كثيرين بإعلان الهدنة في غزة، فإن قوات الاحتلال اقتحمت المسجد الأقصى واشتبكت مع الفلسطينيين، مرتكبةً بذلك التصرف نفسه الذي أثار حماس ودفعها إلى رشق المدن المحتلة، بالصواريخ قبل 11 يوماً، وفقاً للمجلة الأمريكية.
وجدد مستوطنون يهود، صباح الإثنين 24 مايو/أيار 2021، اقتحاماتهم للمسجد الأقصى بحراسة شرطة الاحتلال الإسرائيلي، لليوم الثاني توالياً بعد منعٍ دامَ 3 أسابيع.
ويأتي هذا بعد أن كانت شرطة الاحتلال الإسرائيلي قد أعادت السماح للمتطرفين اليهود باقتحام الأقصى، الأحد 23 مايو/أيار 2021، وتتم الاقتحامات على فترتين؛ الأولى صباحاً والثانية بعد صلاة الظهر.
وبدأ الإسرائيليون السماح بالاقتحامات عام 2003 رغم التنديد المتكرر من قِبل دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس.
وكانت حماس قد ربطت وقف إطلاق النار والهدنة في غزة بالوضع في القدس وحي الشيخ جراح الذي يشهد محاولات لتهجير الفلسطينيين، ولكن شروط الهدنة التي توسطت فيها القاهرة تبدو غامضة، ولا يُعرف هل تضمنت تعهداً إسرائيلياً بوقف هذه الانتهاكات.
ويشار إلى أن العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، شمل قصفاً جوياً وبرياً وبحرياً على قطاع غزة، أسفر عن 279 شهيداً، بينهم 69 طفلاً، و40 سيدة، و17 مسناً، فيما أدى إلى أكثر من 8900 إصابة، منها 90 صُنفت على أنها “شديدة الخطورة”.
وكان لافتاً مشاركة عرب 48 في هذه الانتفاضة، وكذلك قسوة الشرطة الإسرائيلية واليمنيين المتطرفين في التعامل معهم.
فبالنسبة لمليوني مواطن من فلسطينيي الداخل (عرب 48)، فإن مظالمهم ما تزال قائمةً وأكثر وضوحاً من أيّ وقتٍ مضى. فخلال 11 يوماً من الاشتباكات، شهدت المدن المختلطة اشتباكات غير مسبوقة بين فلسطينيي الداخل واليهود، تضمّنت أعمال شغب، وعصابات، وإشعال النيران في المحال التجارية، ومقتل العديد من الفلسطينيين واليهود. علاوةً على إضرام النيران في المساجد والمعابد اليهودية، وتفشّي التحريض على شبكة الإنترنت، حسب المجلة الأمريكية.
بينما قال نمر سلطاني، أستاذ كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن: “إن القضايا نفسها التي أدّت إلى الاحتجاجات والاشتباكات في القدس الشرقية وغزة ستواصل التفاقم. واندلاع جولةٍ ثانيةٍ مسألة وقت، لأنه لا يمكنك أن تنتظر من المقموعين مواصلة التزام الصمت”. وأردف أن الوضع الآن بحاجةٍ إلى ضغط دولي على إسرائيل؛ حتى تمتثل للقوانين الدولية وتمنح المساواة للفلسطينيين.
لكن العديد من الفلسطينيين قد فقدوا الأمل بعد عقودٍ من فشل الجهود والمنظمات الدولية في الوقوف معهم.
ولن تعني الهدنة في غزة أن الفلسطينيين سيوقفون النضال من أجل حقوقهم.
إذ قال اللاجئ الفلسطيني محيي شهده (30 عاماً)، خلال تظاهرةٍ في بيروت: “حين كنت طفلاً، كنت أومن بالمجتمع الدولي. لكنني أفقت من وهْم تلك المنظمات الدولية والأمم المتحدة التي لم تقدم لنا شيئاً طيلة 73 عاماً”.
وربما ليست مشاعر خيبة أمله ويأسه أمراً جديداً، لكنّ التعبير عنها بات أقوى وأكثر وضوحاً بواسطة الشباب الفلسطيني في مخيمات اللاجئين، وشوارع المدن العربية داخل حدود 48، والضفة الغربية التي ما يزال محمود عباس على رأسها منذ انتخابه عام 2005 لفترةٍ مدتها ينص الدستور الفلسطيني على أنها أربع سنوات فقط.
وكان محيي شهده مجرد رضيعٍ عام 1993 حين وقّع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات حينها على اتفاقيات أوسلو، التي تمخَّضت عن وعدٍ زائف بالسلام وإقامة دولةٍ فلسطينية. وأضاف شهده: “لم تقدم لنا اتفاقيات أوسلو أيّ شيء كفلسطينيين. وأين وصلت بنا 30 عاماً من مفاوضات السلام؟! وصلت بنا إلى 250 قتيلاً في غزة، الأسبوع الماضي”.
وبن غوريون راهن على أن أبناء اللاجئين سينسون القضية
وعند تأسيس دولة إسرائيل، حذَّر أول رؤساء وزرائها، ديفيد بن غوريون، من اللاجئين الفلسطينيين: “يجب أن نفعل كل ما بوسعنا لضمان عدم عودتهم. سوف يموت الكبار، وينسى الصغار مع الوقت”.
لكنه كان مخطئاً بشأن الصغار، حسب المجلة الأمريكية، إذ احتشد آلاف اللاجئين الفلسطينيين -وغالبيتهم من الشباب- على الحدود مع لبنان يومياً تقريباً منذ اندلاع الصراع. لدرجة أن بعضهم تسلّق الجدار الحدودي الذي يصل ارتفاعه إلى نحو تسعة أمتار، ليرفعوا العلم الفلسطيني ويسخروا من جنود الاحتلال قائلين: “اطلقوا علينا النار، اطلقوا النار”.
وخلال الاحتجاجات الحدودية الأسبوع الماضي، شاهد اللاجئ الفلسطيني علي صالح، الموقف قائلاً: “تخيَّل أنّ أرضي هناك أمام عيني، لكنني لا أستطيع الذهاب إليها”. وفوق قمة التل القريب، يستطيع عليّ رؤية الأشجار التي باتت الآن تُغطي بلدة أجداده “الخالصة”، على بُعد نحو 2.4 كم من الجدار الحدودي.
وبعد نحو 7 عقود من طردهم، ما يزال اللاجئون الفلسطينيون في لبنان يعيشون بلا جنسية، وغالبيتهم داخل مخيمات مزدحمة تسودها البطالة. وقال صالح إنه كان يُخطط لعبور الحدود، لكن الجيش اللبناني منعه.
ولكنهم حطموا نبوءته
بينما قالت سماح سليمة، الناشطة من فلسطينيي الداخل المحتل: “ربما يموت الكبار، لكن الصغار يتذكرون كل شيء، ويرغبون في إصلاح الوضع”.
وكانت أبرز أوجه الاختلاف في التصعيد الأخير هي أعمال العنف التي اندلعت داخل المدن المختلطة بإسرائيل، خاصة في مدنٍ مثل حيفا التي كان يُضرب بها المثل في التعايش المشترك بين العرب واليهود.
ويُشكّل فلسطينيو الداخل نحو خُمس سكان إسرائيل ممن ظلوا داخل حدودها بعد احتلالها عام 1948. ومع إعلان وقف إطلاق النار، تكهّن الساسة الإسرائيليون بأن أعمال العنف في المدن المحتلة كانت تمثل خطراً بقدر صواريخ غزة.
وقد حمّل مفوض شرطة الاحتلال مسؤولية اندلاع أعمال العنف بشكلٍ مفاجئ، للجماعات اليهودية اليمينية، التي نُقِلَت بالحافلات إلى المناطق المختلطة؛ لتُشعِل الموقف إبان نزول الفلسطينيين إلى الشوارع. بينما اتَّهم ساسةٌ إسرائيليون بارزون، حتى في حزب الليكود، رئيسَ الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإثارة هذا التصعيد؛ من أجل إنقاذ حياته السياسية، مع منح الرئيس الإسرائيلي منافَسه يائير لابيد حقَّ تشكيل الحكومة، في وقت يواجه نتنياهو فيه احتمالات المحاكمة إذا فقد السلطة.
ووصف كُتاب إسرائيليون الجولة كلها بأنها تُمثّل انتصاراً لـ”حماس”: “إذ نجحت الحركة في نقل ساحة المعركة من المناطق التي تطالها صواريخها إلى سائر أنحاء البلاد، في ظل اندلاع أعمال الشغب بجميع المدن”.
الجيل الجديد من عرب 48 يريد العدالة وليس الهدوء
وقالت سماح إن الفلسطينيين يتعرضون بشكلٍ دائم للتمييز ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية داخل دولةٍ تُعرّف نفسها بأنها يهودية. وفي عام 2018 مرّرت دولة إسرائيل قانون الدولة القومية، الذي قلّل مكانة الفلسطينيين في البلاد أكثر. وأضافت سماح أنّه لم تكن هناك ثقةٌ متبادلة في البلاد قبل الأسبوع الماضي، ولكن كان هناك شكلٌ من أشكال العقد الاجتماعي: “أنت في سلام، وأنا في سلام”. كما أردفت أن جيل أطفالها -الذي يبلغ العشرينيات الآن- يريد ما هو أكثر من الهدوء: “يقولون إنهم يُريدون العدالة، ولا شيء غيرها”.