هل تستطيع الإدارة الأمريكية الجديدة تغيير الواقع المرير في سوريا ؟
منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد حكم الرئيس بشار الأسد قبل عشر سنوات، وكان وقتها الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، تمحور هدف الولايات المتحدة الرئيسي في التخلص من نظام الأسد، لكن حتى الآن فشلت واشنطن في تحقيق الهدف الأساسي من سياستها، ولا حتى الأهداف الأخرى تحقق منها شيء يذكر.
وربما يكون الشيء الوحيد الذي نجحت فيه الإدارة الأمريكية هو عزل سوريا ومعاقبتها، أي شلّ اقتصاد البلاد الذي مزَّقَته الحرب بالفعل، لكن تلك السياسة فشلت في إحداث أي تغييرٍ جوهري يذكر في مسار الأحداث. إذ لم تُكلَّل الجهود السابقة لتدريب مجموعات المعارضة وتجهيزها وتسليحها للضغط على الأسد لتغيير الاتجاه أو مغادرة السلطة بالنجاح. وفي المقابل، أسهمت هذه السياسات في تعميق اعتماد سوريا على روسيا وإيران.
وتناول موقع Responsible Statecraft الأمريكي موقف الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن من الملف السوري، من منطلق أنه ورث أزمةً عمرها 10 سنوات ولا تزال تشكِّل تحدياتٍ استراتيجية وإنسانية حادة، راصداً أن الإدارة الجديدة لديها فرصةٌ لإعادة تقييم سياسة الولايات المتحدة إزاء سوريا، وإعطاء الأولوية للدبلوماسية لتعزيز المصالح الأمريكية.
السياسة الأمريكية في سوريا فاشلة
يُعرَف البعض في دوائر السياسة الأمريكية الخارجية بالانتقاد الشديد للرئيس السوري بشَّار الأسد ولسياسات سوريا الداخلية والخارجية، فيما يُعرَف البعض الآخر بالانتقاد القوي لفكرة أن الضغط وحده سيغيِّر ما يُعتَبَر سلوكاً إشكالياً. ولا تزال الخلافات السياسية، خاصةً فيما يتعلَّق بالأسد قوية، وباستثناء مواجهة تهديد داعش في شمال شرق سوريا، هناك اتفاقٌ على أن السياسة الأمريكية فشلت منذ العام 2011 في تحقيق نتائج إيجابية.
وتشمل المصالح الأمريكية في سوريا القضاء على التهديد الذي تشكِّله الجماعات الإرهابية، ومنع استخدام الأسلحة الكيماوية وانتشارها، وتخفيف معاناة ملايين المدنيين الذين مزَّقَت الحرب والقمع والفساد والعقوبات حياتهم.
بالإضافة إلى ذلك، تُعتَبَر سوريا نقطة اشتعالٍ للصراع بين القوى الخارجية، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وإيران وتركيا والأكراد، المدعومون من الولايات المتحدة. وهناك أمرٌ آخر مهم، وهو عبء اللاجئين على البلدان المجاورة وأوروبا، إذ تستمر الهجرة الجماعية في تأجيج ردِّ الفعل الشعبوي.
وقد أدَّت العقوبات الأمريكية والأوروبية إلى ضررٍ حاد في الاقتصاد، وساهمت في انهيار العملة السورية، لكنها لم تضعِف الدعم الرئيسي بين جمهور الأسد المحلي الأساسي، ولم تغيِّر سلوك النخبة الحاكمة.
لقد دفعت سياسة العقوبات الولايات المتحدة إلى الهامش، وجعلت روسيا وتركيا وإيران الحكَّام الرئيسيين لمستقبل سوريا. وفي غضون ذلك توقَّفَت الجهود الدبلوماسية التي تقودها الأمم المتحدة في جينيف، والتي تركَّزَت على الإصلاحات الدستورية.
والأسوأ من ذلك هو أن العقوبات على سوريا تؤدِّي إلى عواقب إنسانية ضارة، من خلال تعميق وتمديد بؤس السوريين العاديين، وتمكين مستغلِّي الحرب، وتدمير الطبقة الوسطى السورية، وهي مُحرِّكٌ مُحتَمَل للاستقرار والإصلاح طويل الأمد. ومن المُفتَرَض أن قيادة البلاد لا تعاني بسبب العقوبات.
عندما أظهرت نتائج الانتخابات الأمريكية أن ترامب قد خسر، وأن بايدن هو الرئيس الجديد في البيت الأبيض، ساد العالم جو من التفاؤل بأن السياسات الشعبوية القومية التي سادت الكرة الأرضية بتأثير ترامبي سوف تنتهي، وتحل محلها سياسات تقوم على التعاون واحترام حقوق الإنسان، والسوريون أيضاً كانوا ينتظرون نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة، شأنهم شأن باقي العالم، والآن تولى بايدن الرئاسة بالفعل.
لكنّ تقريراً نشره موقع المجلس الأطلنطي للدراسات رسم صورة غير مبشرة في هذا الشأن، فإدارة بايدن مثقلة بأعباء داخلية قاسية، تتمثل في جائحة كورونا التي أودت بحياة أكثر من 400 ألف أمريكي وأصابت الملايين ولا تزال، إضافة إلى تداعياتها التي أطاحت بالاقتصاد الأمريكي إلى انخفاضات لم يشهدها منذ عشرات السنين، هذا بخلاف الانقسام العميق الذي تشهده البلاد، والذي كانت أحداث الاقتحام الدموي للكونغرس وتنصيب بايدن تحت التهديد أبرز المؤشرات على أنه أزمة قد تمتد.
وبخلاف معاناتها الداخلية، تواجه إدارة بايدن تحديات هائلة في السياسة الخارجية، تتمثل في الصين وروسيا، وسعيهما لتأكيد المكاسب التي حصلت عليها كل منهما خلال رئاسة ترامب وسياساته الانعزالية من جهة، والاتفاق النووي الإيراني الذي انسحب منه ترامب ويرغب بايدن في العودة إليه، وحرب اليمن وغيرها من ملفات الشرق الأوسط الشائكة، ناهيك عن الخلافات داخل حلف الناتو بين تركيا واليونان وفرنسا وغيرها من قضايا وصراعات السياسة الخارجية.
في ظل تلك الأجندة المزدحمة يرى كثير من المراقبين أن الملف السوري ربما لا يجد مكاناً على أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة على المدى القصير ولا المتوسط أيضاً.
هل تملك الإدارة الأمريكية القدرة على التغيير الحقيقي؟
حتى في حال قررت إدارة بايدن أن تتعامل مع الملف السوري سيكون عليها أن تختار بين النهج الحالي، الذي نجح فقط في المساهمة في الفشل المزمن للدولة السورية، أو العملية الدبلوماسية التي يُعاد تصوُّرها بهدف تطوير إطار مُفصَّل لإشراك الحكومة السورية في مجموعةٍ محدودة من الخطوات العملية والملموسة، التي في حال تنفيذها ستُقابَل بمساعدةٍ مُوجَّهة وتعديلاتٍ في العقوبات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
والهدف من هذا الإطار هو وقف دوَّامة الانحدار في سوريا، وإعادة تنشيط الدبلوماسية من خلال تقديم نهج مريح يمكِّن من إحراز تقدُّمٍ في القضايا المنفصلة، وإعطاء الحكومة السورية وداعميها مساراً واضحاً للخروج من الأزمة الاقتصادية والإنسانية الحالية.
لا يتعاطى هذا الإطار مع التحدي الاستراتيجي المتمثِّل في اصطفاف سوريا مع إيران وروسيا، وهو أمرٌ مرفوضٌ من الولايات المتحدة، ولا يحاسب أيُّ شخصٍ على الوفيات والدمار المُروِّع في سوريا، لكن النهج الحالي لا يفعل ذلك أيضاً.
وتبلورت اللبنات الأساسية لهذا الإطار في ورقةٍ بحثية صادرة عن مركز كارتر، في أوائل يناير/كانون الثاني، وتستند إلى المشاورات المُكثَّفة التي أجراها المركز مع السوريين من جميع جوانب الانقسامات السياسية في البلاد، وكذلك مع المجتمع الدولي.
أولاً، يجب على الولايات المتحدة النظر في إعفاء جميع الجهود الإنسانية لمكافحة جائحة كوفيد-19 في سوريا من العقوبات. وبالقدر نفسه من الأهمية، سيكون من الضروري تسهيل إعادة بناء البنية التحتية المدنية الأساسية، مثل المستشفيات والمدارس ومرافق الري، على أن يتبع ذلك تخفيفٌ تدريجي للعقوبات الأمريكية والأوروبية.
لن تُطلَق هذه الخطوات إلا حين تتحقَّق الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون من تنفيذ خطواتٍ ملموسة جرى التفاوض عليها مع الحكومة السورية. ومن شأن آليات الرصد التأكُّد من التقدُّم في ذلك. وستشمل الخطوات الإفراج عن السجناء السياسيين، والترحيب باللاجئين العائدين، وحماية المدنيين، ووصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، ونزع الأسلحة الكيماوية المتبقية، وإصلاح القطاع السياسي والأمني، بما في ذلك المشاركة حسنة النيَّة في عملية جينيف التي تديرها الأمم المتحدة، والمزيد من اللامركزية.
لكن يجب ألا تكون هناك أيُّ أوهام، إذ إن الحواجز كثيرة أمام النجاح، إذ أظهرت القيادة السورية القليل من الاستعداد لتقديم تنازلت، ويتطلَّب الزخم في هذا النهج التدريجي تحرُّكاً سورياً يمكن التحقُّق منه.
لقد تخلَّت معظم الدول التي دعت إلى رحيل الأسد عن هذا المطلب منذ سنوات، لكنهم استمروا في سياسة الضغط وفرض العزلة التي فشلت في توليد أيٍّ من الإصلاحات المُتصوَّرة في هذا الاقتراح التدريجي. وهذه ليست هديةً للحكومة السورية، بل إنها طرحٌ بأن استمرار الوضع الراهن لن يؤدِّي فجأةً إلى نتائج مختلفة عن تلك التي شهدناها منذ عام 2011. ومن خلال الإطلاق العلني عن قائمةٍ مُتفاوَض عليها من الخطوات المتبادلة، يمكن للولايات المتحدة وأوروبا تطبيق نوعٍ مختلفٍ من الضغط على سوريا، لتوليد الإصلاحات التي رُفِضَت حتى الآن. إن تغيير الإدارة الأمريكية يمنح فرصةً لاختبار هذا النهج الجديد.