الصين في الشرق الأوسط هي الرابح الأكبر

0

خلال الأعوام الـ12 الماضية، كانت الولايات المتحدة تحاول فكَّ الارتباط مع الشرق الأوسط. استجابت القوى الإقليمية، ومن ضمنها إيران وإسرائيل وروسيا والمملكة السعودية وتركيا، لذلك بالبحث عن حلفاء جدد والتنافس بشكلٍ أكثر شراسة مع بعضها البعض. ولكن بعيداً عن العناوين الرئيسية الكبرى، كانت الصين هي الرابح الأكبر في الشرق الأوسط ما بعد الولايات المتحدة. كانت بكين بالفعل أكبر مشترٍ لنفط المنطقة، والآن، من دون ضجة، أصبحت القوة الخارجية الوحيدة التي لها علاقاتٌ سياسية وتجارية قوية مع كلِّ دولةٍ رئيسية هناك، كما يقول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.

فرض تكاليف جديدة على الصين !!

بالنسبة لواشنطن، هذا يعني أن الشرق الأوسط يعاود الظهور كساحةٍ لمنافسة القوى العظمى. لا يهدِّد نفوذ الصين المتزايد في الشرق الأوسط بشكلٍ مباشر، أيَّ مصالح حيوية للولايات المتحدة حتى الآن. ومع ذلك، فإن تعميق تحالف الصين مع إيران وعلاقاتها الودية مع الميليشيات الشيعية المعادية للولايات المتحدة يُعَدُّ أمراً مقلقاً ويشكِّل مخاطر طويلة الأجل على القوات الأمريكية والشراكات والوصول التجاري. 

وتقول المجلة الأمريكية، إنه يجب أن تفرض إدارة بايدن تكاليف على الصين وإيران؛ لمنع شراكتهما الاستراتيجية الناشئة من النمو دون رادع. يجب أن تدرك أيضاً أن معظم حلفائها وشركائها في الشرق الأوسط -وضمن ذلك إسرائيل ودول الخليج- مُصمِّمون على عدم الانحياز إلى أيِّ طرف في التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين. 

ما الذي يميز الصين عن غيرها من المنافسين الإقليميين؟

بدأت الصين في البحث عن موقعٍ استراتيجي جديد؛ للتواصل مع الشرق الأوسط، بعد فترةٍ وجيزة من إعلان إدارة أوباما عن “محور آسيا” في عام 2011. وفي العام التالي، اقترح وانغ جيسي، أبرز مُعلِّق للسياسة الخارجية بالصين، مفهوماً سماه “السير غرباً”، وكتب: “بينما تعيد واشنطن التوازن إلى آسيا، أصبحت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين مثيرةً للجدل بشكلٍ متزايد وعديمة الجدوى”. ومع احتدام المنافسة في آسيا البحرية، توقَّع وانغ أن تنفتح آسيا الوسطى والشرق الأوسط على التعامل مع الصين. وقال إن الانسحاب الأمريكي الحتمي من الشرق الأوسط يمثِّل “فوزاً مُحتمَلاً”، لأن الولايات المتحدة كانت “في أمسِّ الحاجة إلى مساعدة الصين في تحقيق الاستقرار بأفغانستان وباكستان”. 

نُشِرَ مقال وانغ قبل المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني مباشرةً، حين كان من المُقرَّر ترقية شي جين بينغ إلى أعلى منصب، وكان ينذر بالمنطق الاستراتيجي والشعارات ومفاهيم التمويل التي سيُضفى الطابع الرسمي عليها قريباً، في شكل ما أُطلِقَ عليه لاحقاً “مبادرة الحزام والطريق”. 

اعتماد التوسع الصيني على الفجوات الاستراتيجية للشرق الأوسط وتجنب أزماته

ومع ذلك، كانت ردود الفعل على تركيز وانغ الصريح على الشرق الأوسط قاسية وفورية. وفي مقال للردِّ عليه، جادل الباحث شيان شياو بأن الصين يجب أن تعطي الأولوية لجيرانها أولاً. وبعد سطر أو سطرين من المديح الشخصي لوانغ، انطلق شياو في نقدٍ مدمِّرٍ له. تساءل: “ما المُشار إليه بـ(الغرب)؟”. وقال: “من منظور البُعد، أولاً دول الجوار الغربي، تليها دول الشرق الأوسط البعيدة إلى حدٍّ ما، ثم الدول الإفريقية النائية”. ذهب شياو إلى القول بأن وانغ كان يشجِّع الصين على التوسُّع في الفجوات الاستراتيجية، مثلما فعلت الولايات المتحدة ضمنياً في أفغانستان والعراق. 

جادَلَ نقدٌ آخر لاقتراح وانغ، بأن “السير غرباً” من شأنه أن يثير استعداء القوى العظمى الأخرى. وجادَلَ الباحث جي تشانغ بأن هذه الاستراتيجية ستضر بالعلاقات مع روسيا والهند والولايات المتحدة وتقود الصين إلى الاستثمار في “المجالات الخطرة”. وقال إن الصين لا ينبغي لها “أن تتَّخِذ خطوةً كبيرةً في ذلك، بل يجب أن تحكم على المخاطر الاستراتيجية وتضع استراتيجيةً لفهم تحرُّكها غرباً بشكلٍ كامل”. 

باختصار، كان العديد من مُفكِّري السياسة الخارجية الصينيين قلقين للغاية بشأن المخاطر التي قد تأتي بنتائج عكسية لمشروعٍ صينيٍّ رفيع المستوى يشبه مبادرة الحزام والطريق في الشرق الأوسط. رأى الاستراتيجيون الصينيون منطق الاستفادة من القوة الاقتصادية للبلاد لتحقيق منفعة سياسية، لكنهم يخشون الوقوع في شبكةٍ معقَّدة من الخصومات القومية والطائفية بالمنطقة. يشير التاريخ في الواقع إلى أن تجنُّب مثل هذه النتيجة ليس بالمهمة السهلة. لقد كان الشرق الأوسط بؤرةً للعديد من الإمبراطوريات الخارجية على مرِّ القرون، ومن ضمن ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا وفرنسا. 

صفقات صينية بدون ضوضاء

تفسِّر هذه الاعتبارات سببب تعامل الصين مع مبادرة الحزام والطريق بشكلٍ مختلفٍ في الشرق الأوسط عن أيِّ منطقةٍ أخرى. في إفريقيا وآسيا الوسطى وجنوب شرقي آسيا وأمريكا اللاتينية، عادةً ما تروِّج الصين لعقد صفقاتها من خلال الضجة الإعلامية والتقاط الصور على السجاجيد الحمراء، أما في الشرق الأوسط، فعلى النقيض من ذلك، تحاول بكين إبقاء صفقاتها بعيدة عن الأضواء قدر الإمكان. 

على سبيل المثال، لم يُكتَب في الصحف سوى القليل عن استثمار صندوق الثروة السيادية بأبوظبي في شركة SenseTime الصينية للذكاء الاصطناعي، الشهيرة ببرنامج التعرُّف على الوجوه. ولم تُطلَق معظم اتفاقيات الحزام والطريق بين الصين ودول الشرق الأوسط بالكامل، باللغة الإنجليزية أو الماندرين أو اللغة المحلية. ولم تُعرَف الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وإيران، والتي تبلغ قيمتها 400 مليار دولار، إلا بسبب تسريبها. 

بسط نفوذ دون تورط بالأزمات

إذا كان هدف الصين هو بسط النفوذ دون التورُّط في الشرق الأوسط، فإن مبادرة الحزام والطريق تنجح في ذلك ببراعة. وتشمل قائمة الدول التي أيَّدت المبادرة والتزمت، بشكلٍ أو بآخر بالشراكة معها، مصر وإيران والعراق وقطر والسعودية وتركيا والإمارات. لابد أن هذا وحده يُعَدُّ بمثابة جرس إنذارٍ لواشنطن. لا تتفق هذه الدول على أيِّ شيءٍ تقريباً، لكنها جميعاً تريد علاقات أوثق مع الصين. 

أكبر المشكلات التي تواجه المصالح الأمريكية هي الشراكة الاستراتيجية بين الصين وإيران. تنقسم السياسة الداخلية الإيرانية بين فصيلٍ إصلاحي معتدل مؤيِّد للصين، وفصيل متشدِّد مؤيِّد للصين للغاية ويتبنَّى بحماسٍ مبادرة الحزام والطريق. ولقد أدَّت سياسة “الضغط الأقصى” لإدارة ترامب تجاه إيران إلى تمكين الفصيل المتشدِّد. 

كانت العلاقات بين الصين وإيران ودية منذ عقود، لكنها تحسَّنَت بسرعة خلال رئاسة دونالد ترامب. اشترت الصين كمياتٍ ضخمة من النفط الخام الإيراني وباعت إمدادات الاتصالات لإيران. في انتهاكٍ للعقوبات. وتتفاوض حالياً على اتفاقية “جاسك”، وهو ميناءٌ خارج مضيق هرمز. وكان من المُفتَرَض أن يجري البلدان تدريباتٍ بحرية مشتركة في المحيط الهندي الأسبوع الماضي. (انسحبت الصين في اللحظة الأخيرة متعلِّلةً بعطلة رأس السنة الجديدة).سواء كانت الأموال تتحقَّق في الجدول الزمني الموعود أم لا. فإن توقُّع الدعم الصيني سيحثُّ طهران على الدفع بصفقةٍ أصعب في المفاوضات النووية مع إدارة بايدن. 

تنجذب الجماعات الشيعية في جميع أنحاء المنطقة إلى الصين لأسبابٍ مماثلة، فهم يرونها ثقلاً استراتيجياً موازناً للولايات المتحدة. في العراق، كتب وزير الكهرباء في أكتوبر/تشرين الأول 2019: “الصين هي خيارنا الأساسي كشريكٍ استراتيجي على المدى الطويل”. ولقد أشادت الجماعات الشيعية شبه العسكرية من العراق وسوريا (عصائب أهل الحق)، إلى لبنان (حزب الله)، مراراً بالصين وطالبت بالاستثمارات الصينية باعتبارها تقريعاً للولايات المتحدة. 

ثمن دبلوماسي ضئيل هو مادفعته الصين في الشرق الأوسط

والمثير للدهشة أنه لم يثر أيَّ ردِّ فعلٍ مناهضٍ للصين في الدول السنية الرئيسية في المنطقة. أطلقت المملكة السعودية برنامجاً لتدريس اللغة الصينية كلغة ثالثة في جميع المدارس والجامعات. واستعانت المملكة السعودية والإمارات والكويت بشركة هواوي لبناء البنية التحتية لاتصالات 5G في تحدٍّ للضغوط الأمريكية. وكانت الإمارات أول دول أجنبية تمنح موافقةً طارئةً للقاح كوفيد-19 من شركة سينوفارم. وغرَّد حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، على منصة تويتر ناشراً صورةً لنفسه وهو يتلقَّى جرعة. 

ومن اللافت أن الصين لم تدفع سوى ثمنٍ دبلوماسيٍّ ضئيل في الشرق الأوسط لانتهاكاتها حقوق الإنسان ضد الأقليات المسلمة. وفي عام 2019، أشاد وليّ العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، برحلته إلى بكين. 

ووقَّعَ البلدان العديد من الصفقات التجارية الكبرى، وأشاد الزعيم الصاعد بسياسات الصين لـ”مكافحة الإرهاب”. وهو تأييدٌ ضمني لحملة القمع ضد الإيغور. 

حتى إسرائيل تقاوم الضغط الأمريكي للحدِّ من تفاعلاتها التجارية مع الصين. لدى شركةٍ صينية مملوكة للدولة عقد إيجار تشغيلي لمدة 25 عاماً في ميناء حيفا. وهذا الشهر رفضت الحكومة الإسرائيلية طلباً أمريكياً لتفقُّد المنشأة. وتستثمر الصين أيضاً مئات الملايين من الدولارات سنوياً في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي. رغم حملة ترامب التي استمرَّت لأشهر لإقناع إسرائيل بسحب هذه الاستثمارات. 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.