الأسباب الرئيسة وراء تكرار كوارث القطارات في مصر
حطمت كارثة تصادم قطارين في محافظة سوهاج المصرية أمس الجمعة، آمال المواطنين في إنهاء مسلسل تكرار كوارث القطارات في مصر والتي بلغ عددها نحو 12 ألف حادث خلال عقد واحد.
وكان وزير النقل الحالي، الفريق كامل الوزير، قد وعد بإنهاء الحالة المتردية للسكك الحديدية في مصر، مسلَّحاً بدعم كبير من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي منذ توليه المنصب قبل عامين، وسط حديث عن تمويل غير مسبوق خصص لتطوير هذا المرفق.
ولكن الكارثة الأخيرة التي أدت إلى وفاة 32 مواطناً وإصابة 165 شخصاً نتيجة انقلاب عربتي أحد القطارين، تشير إلى ضرورة فهم عميق لأسباب تكرار كوارث القطارات في مصر رغم أن البلاد لديها واحدة من أوائل السكك الحديدية في العالم.
وقالت هيئة السكك الحديدية المصرية، إن القطارين اصطدما بعدما استخدم مجهولون كوابح الطوارئ بالقرب من مدينة سوهاج، مما أدى إلى توقف أحد القطارين واصطدام الآخر به من الخلف، دون توضيح كيف يمكن أن يصل مجهولون إلى هذه الكوابح.
أسباب تكرر كوارث القطارات
فيما يلي شرح للأسباب التي مازالت تتسبب في حوادث القطارات
انعكاس لما أصاب مؤسسات الدولة
يمكن تفسير ما جرى في قطاع السكك الحديدية بمصر (وما ترتب عليه من تكرار كوارث القطارات في مصر) من خلال ما حدث مع الإدارة في العديد من المؤسسات التي تتعامل مع القطاعات الشعبية بالمجتمع، مثل التعليم والصحة، وغيرها، وهي قطاعات كانت مصر سباقة فيها مقارنة بالشرق الأوسط وإفريقيا، وحتى مقارنة بعدد كبير من الدول خارج أوروبا الغربية.
منذ ثورة يوليو/تموز 1952، بدأت مقاربة الكمّ تتغلب على الكيف، أراد الرئيس المصري جمال عبدالناصر توصيل الخدمات الرئيسية (التي كانت نخبوية نسبياً أيام الملكية) إلى أكبر قدر من المصريين، مع تعزيز الاعتماد على العنصر الفني المحلي بدلاً من الأجنبي (وهذا الاعتماد على العنصر البشري المحلي حقق نجاحاً نسبياً في قطاع مثل قناة السويس وبعض القطاعات الأخرى كان النجاح أقل).
حدثت زيادة كمّية لافتة، في الخدمات بمصر، مثل عدد الجامعات والمدارس، والمستشفيات وخطوط السكك الحديدية على حساب الكيف، وتفاقم الأمر مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، بعد حرب 1967، والتضخم في السبعينيات، حيث تآكلت القيمة الشرائية لأجور الموظفين والعمال، مع استمرار التوسع في عملية التوظيف الحكومي، مما أدى إلى تراجع المعدل العام للنوعية، ولجوء الموظفين والعمال إلى عمل إضافي أو ممارسات مختلفة من الفساد، لاستحالة أن يعيش أي موظف مصري براتبه (في بعض الأوقات كان هذا ينطبق حتى على الوظائف الرفيعة).
تحولت هذه المؤسسات ومن بينها السكك الحديدية، إلى مزود، رخيص وغير كفء للخدمات، مع عدد ضخم من الموظفين والعمال، ونظام إداري يساوي بين من يعمل ومن لايعمل، وغياب آلية لتقييم الكفاءة العامة والمحاسبة، خاصة في ظل غياب المؤشرات الاقتصادية كوسيلة للتقييم، وأيضاً غياب المنافسة، والأهم غياب الرقابة الشعبية عبر برلمان حر منتخب.
صيانة الحد الأدنى وليس التطوير
ويقول الدكتور أسامة عقيل أستاذ المرور والطرق والنقل في جامعة عين شمس، والخبير في وسائل النقل، في تصريح نقله موقع “بي بي سي” إن ما يؤدي إلى تكرار كوارث القطارات في مصر، هو أن منظومة السكك الحديدية قديمة جداً في مصر، ولم تشهد تحديثاً على مدى سنوات طويلة.
ويشرح عقيل الفارق بين ما تقوم به هيئة السكك الحديدية في مصر، على مدار سنوات وهو الصيانة، وبين المفترض أن يتم وهو التحديث، فيقول إن الصيانة مثلاً تتعلق بتغيير قطع غيار بعينها، أو إحلال قضبان قطارات متهالكة بأخرى جديدة، أما التحديث -والكلام لعقيل- فهو تغيير المنظومة التقنية بكاملها.
ويرى عقيل أن مصر تخلفت عن أجيال كاملة، من الأنظمة التقنية لتشغيل السكك الحديدية في العالم.
الأولوية للأقدم
النظام التراتبي الإداري المعمول به في السكك الحديدية، هو أن يُعيَّن الموظف الأقدم رئيساً للهيئة، ويُعتقد أن له دوراً في تكرار كوارث القطارات بمصر، حسبما يقول الدكتور أسامة عقيل.
وبهذا ربما ينتهي الأمر بموظف كان في قطاع الورش رئيساً لهيئة سكك حديد كبيرة، بينما هو لا يملك الرؤية ولا الوعي، بما يحدث من تطور في هذا المجال في العالم، بما يمكنه من إدراك ما هو فيه والسعي لتحديثه.
ويرى عقيل أن منصباً إدارياً ضخماً من هذا القبيل يحتاج إلى شخص على دراية بكل ما هو جديد في دنيا النقل والسكك الحديدية، وقادر على صياغة رؤى جديدة في مجاله.
نقص التمويل.. حقيقة أم حجة؟
مثلما حدث في كثير من مرافق الدولة المصرية، أصبحت الحكومة ملزمة معنوياً بتوفير أسعار الخدمات بسعر رخيص (سعر الخبز المدعم ثابت في مصر منذ أكثر من ثلاثة عقود).
ورغم أن مصر تخلت عن المنظومة الاشتراكية، إلا أن الدعم للخدمات الأساسية أصبح من ثوابت الثقافة المصرية، خاصة مع تدني الدخول لكثير من المواطنين بما فيهم أبناء الطبقة الوسطى.
وهكذا تدنت إيرادات السكك الحديدية الذاتية، كما أن غياب النهج الاقتصادي في المحاسبة، منع حتى محاولة زيادة الإيرادات عبر طرق أخرى غير رفع أسعار التذاكر، وبالتالي تفاقمت عجوزات السكك الحديدية التي لم تغطِّها الدولة، إلا بأقل من الحد الأدنى اللازم للتشغيل مع تدني الكفاءة.
والأنظمة الحاكمة المتعاقبة، أحياناً، لم تكن تملك المال، لتطوير السكك الحديدية، وأحياناً كانت تملكه، وتفضل أن تنفقه في المشاريع القومية، مثلما حدث في عهد مبارك في مشروعات لا طائل منها، مثل مشروع إنشاء قناة موصولة بالنيل في جنوب مصر لاستيعاب فائض المياه باسم مفيض توشكي.
أو مثلما حدث في عهد السيسي عبر مشروع قناة السويس الجديدة، أو العاصمة الجديدة، اللتين شيدهما السيسي بعد توليه السلطة، رغم الضائقة المالية التي كانت تعاني منها البلاد.
عشرات المليارات لقناة السويس الجديدة والعاصمة الإدارية
واللافت هنا أنه بينما ُخصصت عشرات المليارات لمشروعي قناة السويس الجديدة، والعاصمة الإدارية الجديدة، فإنه سبق للسيسي أن ألمح قبل سنوات، إلى عدم توافر تمويل لإصلاح السكك الحديدية مع وجود عجز في ميزانية السكك الحديدية قدَّره الوزير السابق بملياري جنيه.
وسبق أن قال السيسي في مؤتمر جماهيري إن الدولة لا تستطيع أن تدفع المئة مليار جنيه المطلوبة لتطوير السكك الحديدية.
وأضاف قائلاً إنه بدلاً من تخصيص عشرة مليارات لإصلاح كهرباء وميكنة السكك الحديدية، لو وضعت هذا المبلغ في البنك لجاء للدولة بمليار سنوياً أو ملياري جنيه.
وألمح إلى ضرورة تطوير السكك الحديدية من خلال رفع أسعار التذاكر، لمنع تكرار كوارث القطارات في مصر.
وقال في تعليقه على رفض الركاب زيادة الأسعار، وقولهم إنهم “غلابة” ولا يستطيعون دفع الزيادة: “وأنا كمان غلبان ومش قادر”! (في إشارة إلى عدم قدرة الدولة مالياً على إصلاح السكك الحديدية في وقت كانت قد حفرت قناة السويس الجديدة خلال عام لرفع معنويات الشعب المصري).
وانتقد السيسي تدني أسعار السكك الحديدية قائلاً: “لا توجد خدمات بهذه الأسعار على مستوى العالم”.
وفي تصريح آخر، قال السيسي إن تطوير السكك الحديدية يحتاج من 200 إلى 250 مليار جنيه، وهذه الأموال غير موجودة.
كان إغراء مشروعات البنية القومية، ذات الطبيعة “الفرعونية”، أكبر من إغراء إصلاح السكك الحديدية التي يستخدمها عشرات الملايين من أفقر المصريين.
ورغم ذلك سبق أن أعلنت الحكومة المصرية، في عهد السيسي ومبارك، عدة مرات أنها خصصت مليارات لإصلاح السكك الحديدية، ولكن دون نتيجة.
كما أن تبرير الكوارث بعدم إجراء صيانة المحطات والقطارات بسبب عدم وجود أسعار تذاكر عادلة، لم يعد مقبولاً، لكن في الفترة الأخيرة تمت زيادة أسعار تذاكر جميع المواصلات التابعة لهيئة السكك الحديدية في مصر وبنسب كبيرة، إضافة إلى تحسن وضع مصر المالي، لدرجة أن السيسي تحدث مؤخراً عن وفرة الأموال المتاحة للمشروعات في البلاد.
مشكلة العنصر البشري
أسباب تكرار كوارث القطارات في مصر لا تقتصر فقط على ضعف الإرادة السياسية للإصلاح أو نقص التمويل.
فرغم معرفة معظم الحكومات والوزراء الذين جاءوا للمنصب أن المشكلة الأصعب في السكك الحديدية هي العنصر البشري، فإنه لم يتمكن أي منهم من معالجة هذه المشكلة (رغم أن هناك تجربة إصلاحية لافتة لمرفق الاتصالات عندما كان أحمد نظيف، رئيس الوزراء الأسبق، وزيراً للاتصالات).
فما يحدث من تكرار كوارث القطارات في مصر محصلة ترهّل طويلة في هيئة السكك الحديدية أدت إلى انحدار المستوى العام بمؤسسة، الخطأ فيها يكلف مئات من البشر حياتهم.
فالنظم الإدارية المصرية أثبتت مهارة في مطاردة المعارضين بأروقة الدولة وخارجها، ولكن في عملية التسيير اليومي لمرفق شديد الحساسية مثل السكك الحديدية، فإنها لو حاولت استخدام نظام مرن للترقيات والمكافآت والجزاءات، فسيتم اختراقه عبر المحسوبية، وإن أبقت على النظام الحالي، فإنه يؤدي لنتائج كارثية، كما نرى.
وتغيير العنصر البشري يحتاج وقتاً أكبر من تغيير الآلات، وهو تغيير يواجَه بمقاومة أكبر عادة، وهو أمر يواجه السيسي في محاولته تغيير تركيبة الدولة المصرية، وجزء من لجوئه للمؤسسة العسكرية في العديد من الأنشطة الاقتصادية والمشروعات، تعبير عن يأسه من تطوير الأداء الحكومي وتفضيله تقديم الجيش كبديل للمؤسسات الحكومية الغارقة في البيروقراطية الآسنة.
ولكن الرئيس المصري لا يستطيع أن يأتي بجنود ليقودوا القطارات، فجاء بجندي ليقود الوزارة بأكملها (كامل الوزير)، ولكن ثبت أن أزمات السكك الحديدية في مصر تحتاج عملية تغيير أكثر جذرية، تتضمن أساليب متطورة للتقييم بعيداً عن الأقدمية والمحسوبية والولاء السياسي، وعملية تدريب مؤسسي واسعة النطاق، تتضمن الجرأة في استبدال العنصر البشري غير الصالح للعمل في هذا المرفق الحيوي.