إلى ماذا يسعى قائد الجيش اللبناني من مهاجمته للحكومة؟

0

بعد أربع سنوات من توليه منصبه، كان صوت قائد الجيش اللبناني جوزيف عون قد بدأ يتعالى وتتردد أصداء انتقاداته. ففي كلمة ألقاها بقاعة خافتة الإضاءة على مسامع أفراد الجيش الشهر الماضي، وبَّخ عون الحكومة اللبنانية لخفض ميزانية الجيش، في خطاب انطوى على انتقادات لاذعة، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.

في كلمته قال قائد الجيش اللبناني جوزيف عون بغضب، مستنكراً مزاعم مسؤولين سياسيين لم يكشف عن أسمائهم بأن الجيش أهدر موارده: “هل يريدون الجيش أم لا؟ هل يريدون أن يظل الجيش قائماً على قدميه أم لا؟”، وتابع: “نحن لا نقبل أن يمس أحد بحقوق العسكريين”.

لا لحوم لأفراد الجيش

تأتي انتقادات قائد الجيش اللبناني في وقتٍ انهارت فيه العملة المحلية (الليرة اللبنانية)، منذ أواخر عام 2019، وارتفعت فيه أسعار المواد الغذائية ارتفاعاً حاداً، وبات الجنود اللبنانيون، الذين كانوا في وقت ما يعملون في إحدى الوظائف النادرة في البلاد التي يُمكن القول إنها تضمن نوعاً من الأمان الاقتصادي، يتقاضون الآن رواتب شهرية تقل عن 120 دولاراً. وهو مبلغ يقرب من 25% من الحد الأدنى للأجور في البلاد قبل الأزمة.

اضطر الجيش على إثر ذلك إلى شد أحزمة التقشف، وفي يونيو/حزيران الماضي، توقف عن تقديم اللحوم لأفراده. وفي فبراير/شباط، قدمت فرنسا مساعدات غذائية للجيش بقيمة 60 ألف دولار، والتي يبدو أنها احتوت فقط على مواد غذائية أساسية: زيت الطهي وأطعمة معلبة.

ومع شعور الجيش اللبناني بآثار الأزمة الاقتصادية في لبنان، حاله في ذلك حال بقية مواطني البلاد، بدت حالة السخط في بيان عون الصريح واضحة للعيان.

هل يسعى قائد الجيش اللبناني جوزيف عون للرئاسة؟

على الرغم من أن جنوده بأقنعتهم الطبية جلسوا في هدوء أثناء حديثه، فإن كلمات قائد الجيش أحدثت موجات من الجدل والنقاشات في جميع أنحاء البلاد.

صدرت تكهنات مماثلة من مراقبين وكُتاب صحف: هل ينذر خطاب عون بانقلاب عسكري أم أنه يعلن عن نفسه بطريقة مباشرة كمرشحٍ لرئاسة البلاد بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون (لا قرابة بينهما) بأقل من عامين؟

واقع الأمر أن تولي قائد عسكري لرئاسة لبنان ليس أمراً غير مألوف، ففي النهاية، الرئيس الحالي للبلاد واثنان من أسلافه كانوا جميعاً قادةً سابقين للجيش قبل توليهم رئاسة البلاد.

من المقرر إجراء الانتخابات الرئاسية أواخر العام المقبل، لكن القائد العسكري جوزيف عون لم يعرب في أي وقت صراحةً عن رغبته في خلافة الرئيس الحالي.

مع ذلك، فإن هناك شيئاً واحداً مؤكداً، وهو أن علاقة قائد الجيش بالرئيس عون التي لطالما بدت وثيقة تدهورت، خاصةً أن المجتمع الدولي أصبح أشد حدةً في انتقاداته لمعظم النخبة الحاكمة في لبنان.

الجيش أصبح يتحمل مسؤوليات كبيرة، وجوزيف عون يريد تجنيبه غضب الناس

لكن، وبصرف النظر عن التكهنات، فإن الواضح بالتأكيد أن الجيش اللبناني يقف الآن على مفترق طرق مثير للاهتمام في تاريخه.

شهد لبنان على مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية احتجاجات هزَّت البلاد، وانهياراً اقتصادياً يتفاقم بسبب جائحة كورونا، وانفجاراً في مرفأ بيروت دمَّر جزءاً كبيراً من العاصمة.

وفي كل هذه الأزمات، تصرفت الدولة المفلسة وكأنها في غيبوبة، وفوَّضت الجيش للتعامل مع مختلف الأزمات.

بناءً على ذلك، ومهما كانت الدوافع الخفية، فإن الواضح أن جوزيف عون يحاول فصل الجيش عن النخبة الحاكمة الفاسدة في البلاد. ويسعى إلى تقديم قوات الجيش اللبناني على أنها ضحية للفساد المستشري وسوء الإدارة، إلى جانب كثير من سكان البلاد الغاضبين والساخطين، الذين يعيش أكثر من نصفهم في فقر وعوز.

الجميع ينظر له بإيجابية.. فهل ينظم انقلاباً عسكرياً؟

في بلدٍ منقسم بشدة على أسس طائفية وسياسية، لطالما نُظر إلى الجيش اللبناني على أنه أحد الكيانات القليلة -على الأقل من الناحية النظرية- التي تتجاوز تلك الانقسامات (أو يتعايش معها).

يقول الحلبي إن “الجيش كان هو كيان الدولة الوحيد القادر على حشد دعم الأغلبية وراءه بصرف النظر عن الانتماءات الطائفية. والناس لا يريدون له التفكك”.

وعلى الرغم من أن الجيش اللبناني لم يكن في أي وقت محصناً من المحسوبية السياسية والمحاصصة الطائفية المهيمنة على لبنان، فإن التجنيد في الجيش كان عادة ما يضمن للمنتسبين إليه، على اختلاف طوائفهم، نوعاً من الأمن المالي والمستوى المعيشي المقبول.

وأضاف الحلبي: “كل الطوائف تنظر إلى الجيش على أنه المؤسسة التي يتطلعون إليها في الدولة الذي تتجه إليه لضمان الاستدامة المالية لعائلاتهم. وخارج بيروت بدرجة رئيسية، الكثيرون يستثمرون أبناءهم في الجيش”.

دعا بعض المتظاهرين المناهضين للحكومة إلى حكم عسكري في لبنان، ومع ذلك فإن أغلبهم كان يدعو إلى أن يكون ذلك ضمن مرحلة انتقالية. لكن كل هؤلاء يشكّلون نسبة ضئيلة مقارنةً بأولئك الذين يبجّلون المؤسسة ببساطة.

اتهامات بالتعذيب

من جهة أخرى، ورغم أن الجيش ابتعد بدرجة كبيرة عن التورّط في احتجاجات العاصمة، فإن قواته كُلِّفت في كثير من الأحيان بالتصدي للمتظاهرين في أماكن أخرى. وزعم متظاهرون في عدة مدن أنهم تعرَّضوا للتعذيب على أيدي قوات الأمن والجيش، كما حُوكِم آخرون في محاكم عسكرية في لبنان، ووجِّهت إليهم أحياناً تهم الإرهاب.

يقول ناصر ياسين، أستاذ السياسة والتخطيط بالجامعة الأمريكية في بيروت، لموقع MEE: “أينما تعجز الإدارات المدنية عن القيام بوظائف معينة، فإنهم يطلبون من الجيش أن يضطلع بتلك الوظائف”، مضيفاً أن مؤسسات الدولة لا ينقصها الإمكانات في كثير من الأحيان، لكنها تُدار بطريقة سيئة.

ومن ثم، يوضح ياسين: “لماذا [الاعتماد على] الجيش؟ لأنه فعال وموثوق به إلى حدٍّ كبير من قبل المواطنين، على خلاف السياسيين”.

في أثناء أزمة انفجار مرفأ بيروت كان قائد الجيش جوزيف عون يلتقي بانتظام مع عمال الإنقاذ والمسعفين، وينسّق عمليات البحث والإنقاذ مع الفرق الدولية.

كما أعلنت السلطات بيروت مدينةً في حالة طوارئ، ومنحت الجيش صلاحيات استثنائية فيها، لاسيما في المرفأ ومحيطه. وأصبح الجيش أيضاً المستلم والموزع الرئيسي للمساعدات الإنسانية الأجنبية. وأجرى الجيش مسحاً لأكثر من 85 ألف مبنى متضرر في العاصمة.

تعليقاً على ذلك، يقول ياسين إن اضطلاع الجيش بدور فاعل في أعقاب كارثة مثل انفجار بيروت أمرٌ مفهوم، لكن دوره متعدد الأوجه يعني أنه بات “يمثل الآن الدولةَ لعموم الناس في الشارع”.

وللتدليل على وجهة نظره، قال ياسين: “قُد سيارتك في أي مكان خارج بيروت، وأغلب الاحتمالات أنك ستمر عبر نقاط تفتيش عسكرية”، كما أنه “بمجرد أن يكون هناك احتجاجات، سيكون الجيش هناك”. كل ذلك يجعل بعض المراقبين يذهبون إلى أن محاولة جوزيف عون فصل الجيش عن النخبة الحاكمة لن تكون مهمة سهلة، لاسيما أن الحياة تزداد صعوبة على اللبنانيين مع احتمالات ضئيلة بتحسّن الأوضاع الاقتصادية في وقت قريب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.